عبدالله العولقي
تعد دراسة ظاهرة الإبداع والمبدعين من أمتع الدراسات البحثية لكونها تتسم في أغلب مواضيعها بالغرابة والتشويق ، وموضوعنا اليوم هو إبداع المفكرين والعظماء والكتاب وعطائهم في شيخوختهم وكأن العمر لا يعني لهم شيئاً ، فالعمر مجرد رقم كما يقال في أحاديث الناس، وأذكر أن أول الباحثين الذين قرأت لهم وقد تعرضوا لهذه الظاهرة هو الكاتب الأستاذ أنيس منصور حيث تحدث عن العديد من النماذج البشرية التي طالت أعمارها وهي لا تزال تفيض بالعطاء الإبداعي دون أي كلل أو هوادة، ولا شك أن من هؤلاء أنيس منصور نفسه والذي طال به العمر إلى قريب التسعين عاماً، وكان يكتب إلى آخر أيامه بكل نشاط وعزم، وبهمة قد لا نجدها لدى بعض الشباب، وكان- رحمه الله تعالى- يرد هذه المسألة إلا أنه نباتي لا يحب من اللحوم إلا الأسماك، وكان يكتب عموده الشهير يومياً في جريدة الأهرام المصرية وعموداً يومياً آخر في جريدة الشرق الأوسط اللندنية بكل همة ونشاط، ويفاجأ قراءه ومحبيه بكتاب جديد ينشره بين الفينة والأخرى.
وسنتحدث الآن عن نماذج العطاء الإبداعي في مرحلة الشيخوخة في الحضارتين الإسلامية والغربية، ففي التراث الإسلامي نجد أن الشيخ أبو الوفا ابن عقيل الحنبلي وهو على عتبة الثمانين من عمره يجتهد في طلب العلم ويقول: إني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين من عمري أشد مما كنت أجده وأنا ابن العشرين!! ، وقد قرأت في مذكرات أحد تلاميذ الشيخ محمد بن عثيمين- رحمه الله- كيف كان يتعجب هو ورفاقه عندما يرون الشيخ يتمتع بكل هذه الهمة والروح والنشاط في العطاء العلمي وإلقاء الدروس والمحاضرات والعبادة وهو في السبعين من عمره!!.
وفي الثمانين كتب الفيلسوف الإنجليزي المبدع برتراند راسل: عندما كنت شاباً أحببت الرياضيات فلما وجدتها صعبة اتجهت إلى الفلسفة فلما وجدتها صعبة أقبلت على السياسة!! ، وفي التاسعة والثمانين من عمره دخل السجن أسبوعاً لأنه كان يتقدم المظاهرات ضد انتشار الأسلحة النووية في العالم، وكان قد تزوج حينها للمرة الرابعة! ، ومات وهو في الخامسة والتسعين من عمره!!
أما المؤرخ الأمريكي العظيم وول ديورانت فقد أكمل قصة الحضارة بصدور الجزء الحادي عشر الذي كتبه مع زوجته اريل ديورانت، وقد كان هو في السادسة والتسعين وكانت هي في الثالثة والثمانين، وبعدها ماتت الزوجة التي كانت تساعده في كتابة موسوعته التاريخية الضخمة، وكانت بمثابة السكرتيرة الشخصية له، فلم يطب له العيش بعدها، فتوفي بعدها بأسبوعين فقط، وهذه ظاهرة تتكرر كثيراً بين الأزواج ولاسيما إن كان يجمع بينهم توءمة روحية في حياتهما الزوجية، ويقول الفيلسوف الألماني هيجل ظاهرة تعمير المبدعين وإبداعاتهم في سن الشيخوخة: أن الرومان كانوا أصح جسماً ولكنهم كانوا أقصر عمراً، بينما كان الإغريق أصح الناس عقلاً وأطول الناس عمراً، فحياة الجسم من حياة العقل، فالعمر يطول ولكنه يقصر هنا في دماغك.
لقد أثبت التاريخ أن كثيراً من النابهين في كل مسارات الحياة قد بلغوا قمة الإبداع في الستين وما بعدها، فلا نهاية للذين أبدعوا وتفوقوا حول الستين، ففي عام 1939م كان تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في السبعين من عمره وقد أعلن الحرب على ألمانيا وهو أكثر الناس حيوية، وفي السبعين أيضاً ، أعلن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا نهاية هذه الحرب سنة 1945م، وكان تشرشل حينها أقوى من جيوش بريطانيا والحلفاء كما يقول مؤرخو الحرب العالمية الثانية، وفي السبعين أيضاً وقف الفيلسوف الإغريقي القديم سقراط العظيم يتحدى القضاة والقانون، ويقول إنه على حق وأنه الأقوى، فيحكمون عليه بالموت مسموماً فيقبل الحكم لأنه يجب أن يكون قدوة، وقد حاول القضاة إغراءه بأن يهرب أو يعتذر ولكنه أراد أن ينهي حياته وهو في تمام الصحة والعافية وأن يكون أعظم وأشجع من كل الشباب حوله!
وكان الفيلسوف الألماني انجلز في السبعين من عمره يقرأ سبع صحف يومياً و19 مجلة اسبوعية في ثماني لغات، ويتناول ثلاث وجبات في اليوم وينام بعمق ست ساعات ويكتب عشرين خطاباً، وفي هذا السن أيضاً كتب العالم النفسي كارل يونغ كتابه الشهير ( ظاهريات الروح في القصص الخرافية )، وفي هذا السن أيضاً نشر أديب ايطاليا البرتو مورافيا كتابه( الحياة الداخلية)، أما الفيلسوف الألماني الأمريكي هربرت مركوزة فقد أطلق عليه مسمى الفيلسوف الشاب وهو في الثمانين من عمره لما كان يتمتع به من حيوية ونشاط.
وعندما بلغ المهندس العالمي فرانك رايت السابعة والثمانين انشغل بمشروع بناء عمارة ارتفاعها كيلومتر في مدينة شيكاغو، أما الفنان العظيم مايكل انجلو فسنوات تألقه الإبداعية كانت في الستين وما بعدها وقد توفي في عام 1564م عن 87 عاماً، أما عظيم ألمانيا وشاعرها جوته فقد بلغ الثمانين وما شعر بأن قلبه قد شاخ وإذا هو يقع في غرام فتاة في الثامنة عشرة، نضرة زهرة ويريد أن يتزوجها، وعندما وبخه زملاؤه وأقاربه لم يزدد إلا تعلقاً وهياماً بها لأنهم لم يدركوا أن هذا الشاعر الشيخ كان له قلباً شاباً.
وهنا يأتي السؤال المهم لماذا يقدم المبدع عطاءه الإبداعي بكل سخاء وهمة ونشاط وهو في سن الشيخوخة، ربما السر يكمن في عشق العمل والمهنة والتعلق الروحي بهذا الإبداع، فأم كلثوم مثلاً، كانت تقف على عتبة المسرح من ساعتين إلى ثلاث ساعات وهي تشدو بأغانيها وهي على عتبة السبعين من عمرها، وكانت ترفض الغناء وهي جالسة على المقعد، كانت ترى ضرورة احترام المسرح واحترام الجمهور بأن تغني وهي واقفة رغم كبر السن وتقدمها في العمر، ورغم ذلك كانت في قمة عطائها الإبداعي وأوج تميزها الفني والغنائي، كان حبها العميق للغناء على المسرح هو سر هذا الوقوف المسرحي وكأنها فتاة في العشرين من عمرها!!.
لا شك أن الشيخوخة تظل هاجساً يشغل بال الإنسان دائماً لكونها حالة زمنية تتعلق بمرحلة الضعف والوهن، وأنها تشكل بصورة أو بأخرى البوابة التي تؤدي إلى الموت، وقد كتب حول هذه الحالة العديد من المبدعين والكتاب والشعراء منذ القدم،كما أن هناك ظاهرة غريبة لدى المبدعين في العصر الجاهلي مثلاً، وهي حالة التبرم من الشيخوخة في ذلك الزمن وكأنها إطالة للتعب الجسدي والوهن والملل من أمور الحياة، كما يقول أحد كبار شعراء المعلقات وهو زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
أو كقول معاصره الآخر، لبيد بن أبي ربيعة وهو أحد شعراء المعلقات أيضاً:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وقول ذي الإصبع العدواني متذمراً أيضاً:
أصبحت شيخاً أرى الاثنين أربعة
والشخص شخصين لما مسني الكبر
وكنت أمشي على الرجلين معتدلاً
فصرت أمشي على ما تنبت الشجر
وربما هذا التذمر والسأم من طول الحياة لم نعد نجده لدى الشعراء والمبدعين بعد العصور الإسلامية إلا بصورة مهذبة تتشكل بأسلوب المستحيل وطلب الترتداد الزمني العكسي باتجاه الماضي، أي الحنين إلى فترة الشباب كما صورها أبو العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
او كقول الشاعر الأندلسي ابن حمديس:
أحن إلى العشرين عاماً، وبيننا
ثلاثون يمشي المرء فيها إلى الخلق
وللمتنبي حنين أيضاً إلى زمن الصبا والشباب:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلق باكيا
وحول موضوع الارتداد الزمني العكسي باتجاه الماضي، نستذكر رواية طريفة للكاتب الأمريكي الشهير سكوت فيتز جراد اسمها: الحالة المحيرة لبنجامين بتن، والتي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي، أما فكرة الفيلم الغريبة فتقوم على تخيل حياة مختلفة للبطل بنجامين والذي يولد وهو يحمل ملامح عجوز في الثمانين من عمره، ومع مرور الزمن، يستمر نمو البطل بشكل عكسي، حيث كان يصغر في اللحظة التي يكبر فيها الجميع بمن فيهم ابنته، لينتهي أمره ميتاً في جسد رضيع بين حضن رفيقة حياته السابقة وهي على مشارف السبعين من عمرها!!.
نعود إلى موضوع العطاء الإبداعي في الشيخوخة، ونذكر قصة طريفة حدثت بين عملاقين في الأدب الألماني، حيث روى الشاعر الألماني ( هايني ) أنه عندما كان شاباً طلب مقابلة جوته وهو في آخر أيامه، وعندما أذن له ودخل عليه، وجده صامتاً صارماً مثل التمثال، ولم يرض أن يلقي من عليائه بكلمة رقيقة إلى الشاعر الشاب، وخرج هايني من ذلك المكان الرهيب، يسخط ويقول: ما جوتة هذا سوى معبد أجوف!!،، ويقول الأستاذ توفيق الحكيم معلقاً حول هذه الحكاية: في يقيني أن ما بدا من جوتة يومئذ، لم يكن سوى الرداء التمثيلي المزركش الذي يحلو للعبقرية أحياناً أن تدثر فيه دلالها وفخرها! ولو صبر ( هايني ) الشاب حتى تتوثق العلاقة بينه وبين الشاعر الكبير لرأى العبقرية قد خرجت عارية من ردائها الرسمي ذلك أن الممتازين من الرجال لهم دائماً هذه الصفة: إنهم يخلقون وبين ضلوعهم قلوب لا تشيخ!!
أما الأديب الساخر برنارد شو فقد مات سنة 1950م عن 94 عاماً، قال شو: أعتقد أن سبب وفاتي هو أن الناس كلما رأوني أكتب كانوا يقولون: ولكنك كبرت مستر شو!!، إنهم وحدهم الذين جعلوني أشعر بأنني كبرت، مع أنني رأيت التخريف في كل ما يقولون، فليس فيهم واحد قادر على أن يقرأ أو يفهم ما كتبت فكيف إذا جلسوا للكتابة!! فإذا مت، فليس لأني عجزت عن الفكر والإبداع ولكن لأن الناس قتلوني ! ،، وقد علق الأستاذ أنيس منصور على كلام شو بقوله: إن برنارد شو يرى أن الشيخوخة مشكلة اجتماعية أو مشكلة خلقها وعمقَها المجتمع ، فالناس ينظرون إلى الشيخ أنه إذا كان حياً فهذا مؤقت، وإن طالت به الشيخوخة، فهو قد تجاوز عمره الافتراضي، والنا س يستكثرون على الشيخ أي شيء، فهم يقولون: ما شاء الله ما زال يمشي على قدميه، وكأنهم يرون أن المشي على قدميه ليس من صفاته أو حتى من حقه!!، فهم يستنكرون عليه الشيء القليل ويتجاهلون حقيقة من حقائق التاريخ التي تؤكد بأن بعض المبدعين يتألقون في شيخوختهم!!
** **
@albakry1814