أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
لكن هذا الأمر، أي صعوبة قياس تباين الزمن في ظواهر محدودة الارتفاع نسبياً على الأرض كالمنازل، والجبال، والهضاب، والوديان ونحوها، يختلف بشكل ملحوظ على المستوى الكوني، فالساعة مثلاً على سطح نجم عملاق فائق البعد عن الأرض ضوئياً تدقّ نحو70 % من معدل دقات ساعة نظيرة لها على الأرض، أي أن الساعة التي في الأرض تدق أسرع بكثير من تلك التي على ذلك النجم. أما على سطح الثقب الأسود فيكون انحناء الزمن أقصاه، حيث يتوقف الزّمن هناك ويبقى ثابتاً بالنسبة لزمننا على سطح الأرض.
اعتماداً على ما سلف خَلُصَ أينشتاين إلى استنتاجٍ مثيرٍ للاهتمام يؤكد فيه أنّ الفصل، نتيجة لنسبية الزمن، بين الماضي والحاضر والمستقبل وهم من أوهام الذهن البشري يستحيل حدوثه بهذا الشكل الشمولي. فما هو حاضر لفرد ما هو ماضٍ لآخر، وأن حاضر ذلك الفرد ربما يكون مستقبلاً لفرد غيره. ونتيجة لذلك، يُعَدُّ الزمن عند إنشتاين كتلة كونية واحدة غير قابلة للتجزئة، فالفرد الذي تجتمع لديه تلك الفواصل الزمنية في اللحظة نفسها يستطيع أن يرى الحاضر، والمستقبل، والماضي معاً في الآن نفسه. فعلى سبيل المثال، الفرد على كوكب الأرض يرى، مثلاً، حاضره، كما يرى في اللحظة نفسها ماضي النجوم مع كل ومضة ضوء ترصدها مقلته لتلك النجوم من على سطح الأرض. وفى المقابل يُعَد الفرد الذي على كوكبٍ آخر، حسب ما ذكره جرين براين في كتابه «الكون الأنيق»، مستقبلاً بالنسبة للفرد الذي على الأرض، أي أن هذا الفرد وفقاً لبراين سيرى هذا النظير الأرضي في قادم الأزمان لاحقاً. وبما أن الماضي شعاع يتجه حسب براين من حدث، أو نجم، أو كوكب ونحوه مثلاً، إلى المشاهد، فكذلك المستقبل شعاع ينطلق من المشاهد إلى الحدث. أما الحاضر فهو برهة هاربة متفلتة جداً غير مقيسة لا تمثل سوى نقطة على مسار الزمن لا تتجاوز مدة بقائها في الطيف الزمكاني مدة النطق بلفظة «الآن»، وهذه النقطة تُعَبّرُ بالطبع عن جميع الأحداث التي تسجل في اللحظة نفسها في أماكن متفرقة من الكون. فالماضي ولّى واندثر، والمستقبل غيب أو عدم لم يأتِ بعد، والحاضر لحظة تدوم لأقل من الميكروثانية وهو ما يعادل مقدار زمن الرسالة الفسيوعصبية كما مر بنا سابقاً، ثم سرعان ما تغادرنا تلك اللحظة إلى غير رجعة على عجل لتلحق بزميلاتها من اللحظات التي ضاعت من قبل في غياهب الماضي وتلاشت. ونتيجة لذلك تَصَوّر براين جرين في كتابه المذكور آنفاً الأحداث كوقائع موجودة على شريحة واحدة من الزمن تسمى «الشريحة الآنية». ففي هذه الشريحة، على سبيل المثال، من يكتب مقالاً مثلي الآن في موضع ما من العالم، وفى اللحظة نفسها التي أكتب فيها هذا المقال ينفجر هناك نجم في الكون السحيق، ويضرب نيزك سطح القمر البديع، ويستمتع أناس بزواج عزيز، وفى اللحظة نفسها يودعون عزيزاً. فالزمن إذاً عند براين يُقَطّعُ إلى شرائح آنية مختلفة الزوايا نتيجة لتأثير الحركة على تدفق الزمن تماماً كما يُقَطّعُ رغيف الخبز إلى شرائح متعددة.
يجب عند هذه المرحلة من المقال ألا نغفل الإشارة إلى أن الأوضاع الزمكانية النسبوية الآنف شرحها تختلف كمومياً على مستوى الجسيمات الذرية وما تحت الذرية الدقيقة عن نظيراتها على المستوى الكوني العملاق وخاصة ما يتعلق بتلك الأوضاع بـ «الزمن الكمومي» الذي ينعدم قياسه في المستويات الذرية وما تحتها. ونتيجة لذلك يعد الزمن في نظرية ميكانيكا الكم بعداً مطلقاً تسقطه من معادلاتها لانعدام وجوده في تلك المستويات. ولهذا فالزمن في تلك النظريةُ يستبدل بعلاقات تبادلية بين حجم الكون وقيمة حقل مادي ما، فكما يتطور الكون مع مرور الزمن ويتوسع، فإن قيمة هذا الحقل تتغير وتتطور هي الأخرى مما يهيئ فرصاً تطبيقية أمثل لميكانيكا الكم في التعامل مع الزمن إن وجد في مثل هذه الحالات الشاذة والخارجة عن المألوف الزمكاني للفضاء المقيس. فهناك كائنات في المستوى ما تحت الذري لا يسمح عمرها الكمومي القصير مثلاً بتحديد ماضيها وحاضرها ناهيك عن تحديد فاصل زمنها المستقبلي أو الإحساس به. فالكوارك مثلاً يعيش عمراً يقدر بالبيكوثانية التي تعادل مقداراً يساوى عشرة مرفوعة لأس سالب اثني عشر جزءاً من الثانية، أو ما يعادل جزءاً واحداً من تريليون جزءاً من الثانية أو مليون مليون جزءاً من الثانية. والضوء الذي يلف الأرض نحو تسع مرات في الثانية يقطع البروتون (مقاس واحد فيمتو متر) في زمن يقاس بالأوكتوثانية، أي في زمن مقداره واحد جزءاً من تريليون تريليون جزء من الثانية، فأين الماضي والحاضر، وأين المستقبل في هذه المفارقة الزمنية الفائقة الصغر؟ ويحتاج الإلكترون لكي يكمل دورة واحدة حول نواة الذرة أربع وعشرين أوكتوثانية، أي أنه يتم نحو أربعين ألف مليار دورة حول النواة خلال ثانية واحدة، فأي ماضٍ وحاضر ومستقبل هذا الجسيم العجيب؟ كما تمكن العلماء من خلال التجارب والمحاكاة استثارة الإلكترون في الهيليوم ورصده في مدة تعادل جزءاً واحداً من بليون تريليون جزء من الثانية، فأين الحاضر هنا ناهيك عن الماضي العدم، والمستقبل الغيبي؟ وقد قدم كاتبُ الخيالِ العلميّ فيليب ك. ديك في إحدى رواياته مفهوماً تخيلاً مفاده أن الزمن يمكن أن يتراجع، وأن تراجعه للخلف سوف يجعل الناس الأكبر يبدون أصغر سناً، كما أنهم سوف ينسون كل ما تعلموه من قبل، وتدريجياً يصبحون شبابًا ثم أطفالاً رضعاً، فأجنة في بطون أمهاتهم ليختفون نهائياً فيما بعد. ويعد علماء تاريخ الكون الذي بدمع الانفجار الكبير وأخذ في التمدد باستمرار منذ ذلك الحين، يعدونه من أكثر الأمثلة واقعية لقضية اتجاه الزمن. فعندما ننظر في ذلك التاريخ الذي يتضمن تاريخنا نحن أيضاً، يبدو الاتجاه الذي يشير إليه سهم الزمن واضحاً هو الاتجاه من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل. لكن المعضلة هي أن قوانين الفيزياء تؤكد بأننا إذا كنا نستطيع تحريك جسمٍ في اتجاهٍ واحد بتعريضه لقوّة ما، فحينئذٍ وفقاً لقانون نيوتن الثّاني للحركة، سوف يكون بوسعنا أيضاً أن نجعله يعود أدراجه بتعريضه لنفس القوّة في الاتجاه المعاكس إلى الخلف، لأن كلا الاتجاهين ممكن الحدوث نظرياً على حدٍّ سواء. ولكن من الجدير ذكره هنا أنَّ الزمن الكوني في قوانين الفيزياء غير عكوسي، أي أنَّ الزمن يسير في اتجاه واحد للأمام فقط. ويعود السبب في ذلك إلى قانون الإنتروبي الذي يعيق تراجع الزمن إلى الخلف نتيجة لازدياد الفوضى في الأشياء، وتفاقم عشوائيتها. فيقل انتظام الزمن نتيجة لذلك ويتفاقم فساده مما يستعصي تراجعه الذاتي إلا بقوة ماورائية قادرة حسب قانون العطالة على طي الزمن عكوسياً. ولأبي العلاء المعرى وصف بديع رائع لذلك الفساد الكوني فيقول:
واللبيبُ اللبيبُ مَن ليس
يغترُّ بكوْنٍ مصيرُه للفساد
فسادٌ وكونٌ حادثان كلاهما
شهيدٌ بأن الخلقَ صُنْعُ حكيم
وقال أيضا:
يحطِّمنا ريبُ الزمان كأننا
زجاجٌ ولكن لا يُعاد لنا سَبْك
وفي ختام هذا المقال لا بد من الإشارة إلى أن الزمكان الكوني برمته في طريقه للفناء في نهاية المطاف مصداقاً لقوله تعالى «يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين». أي أن الكون سيتراجع عكوسياً إلى الحالة التي بدأ بها رتقاً أي إلى نقطة التفرد الأولى التي نشأ منها قبل الانفجار العظيم.
وهو أمر يتوافق معه العلم الفيزيوكوني الحديث المتمثل في قانوني الإنتروبي «القصور الحراري» وانحلال المادة واضمحلالها مع الزمن. ولميكانيكا الكم منظور آخر لنهاية الزمن مفاده أن الفراغ في مرحلة متقدمة من عمر الكون تتشكل فيه بأمر الله جسيمات متناهية الدقة وعشوائية السلوك تتسبب بمشيئة الله في انفجار جديد ينهي الزمن الكوني الحالي المقيس ليبدأ بعد ذلك زمن كوني ربما يكون من نوع آخر يختلف زمكانياً عن كوننا الذي ألفناه وألفته الأجيال التي يحتضنها أديم ثرى أرضه التي عاشوا مهادها ردحاً من الزمن ثم رحلوا كما سنرحل نحن إلى حيث رحلوا لنصبح جميعنا أثراً في مسرى الزمن الكوني بعد عين.