د.منصور بن محمد البلوي
ينبغي الإشارة ابتداءً إلى أنَّ هذه المقالة لا تسعى لاستعراض الآراء التي تناولت إشكالات المشروعات العلميَّة وما تنهض به الخُطط البحثيَّة بصورةٍ إجرائيَّةٍ أكاديميَّة؛ فما كُتب حول هذا الموضوع غير قليل، وبإمكان الباحث الرجوع إليه في مظانِّهِ ومرجعيَّاته – ولكنَّ المقالة تسعى للوقوف على بعض العوائق والعُقَدِ التي تصادف الباحثين والباحثات حين شروعهم الفِعْلي في الكتابة، سواء أكانت هذه العوائقُ عوائقَ بحثيَّة داخليَّة (نسقيَّة) تتعلَّق بالمنهجيَّة والرصد والتأويل، أم عوائقَ خارجية (سياقيَّة) تلامس الذات الباحثة وتُفضي بها إلى شيءٍ من القلق النفسيّ، كعُقدة الكمال وعوائق الاحتباس والخذلان.
وهذه المقالة هي في أصلها مجموعةُ مقطوعاتٍ وخواطرَ كتبتُها ونشرتُها في فضاءات مواقع التواصل، وهي وإنْ كانت متباعدةً في زمن كتابتها فإنَّها متقاربة في مؤدَّاها؛ إذ إنَّ هاجسها المحوريّ يدور في فلك البحث العلمي وما يُؤطِّره من إشكالاتٍ بنائيَّة ومعنويَّة؛ ومن هنا رأيتُ جمْعَ ما تفرَّق منها، ولملمةَ ما تناثر من عباراتها؛ عسى أن يجد فيها الباحثون والباحثات ولو قليلًا من فائدة. على أنَّ ما تُقدِّمه هذه المقالة من نصائحَ لا يعني بحالٍ تزكية ذاتِ كاتبها البحثيَّة، وإنما مدار الأمر هو تبادل الخبرات والتجارب والمعرفة. ولأنَّ البحثَّ العلميَّ أولويَّةٌ من أولويَّاتِ طُلَّابِ العِلْمِ المُثْقَلِينَ بالهموم المعرفيَّة، والتساؤلاتِ الإشكاليَّة – فقد أردتُ مشاركتهم هذه الهموم والتساؤلات ببعض النصائح المتواضعة، فأقول:
1- إنَّ البحثَ العلميَّ ما هو إلَّا إجاباتٌ عن أسئلةٍ ذهنيَّة بِلُغةٍ ورؤيةٍ ومنهجيَّة. أو قُل إنَّه: قلقٌ مَعْرِفيٌّ مُبهِج، عِمادُهُ الأسلوبُ والرؤيةُ والمنهج. والقَلَقُ هُنا إنَّما هو قَلَقٌ لذيذٌ ومُنتِج؛ فالباحثُ القَلِق يعيش مع بحثِهِ في صراعٍ طويل، لكنَّه - في الغالب - يأتي بشيءٍ جميل! ومن هنا كان قمينًا بالباحث أنْ يتزيَّا بزيِّ الصَّبْرِ والمكابدةِ والتواضُعِ للعِلْمِ والمعرفة؛ فالعِلْمُ يزيدُ بالمُصابَرَة وينقصُ بالمُكابَرَة، وطريقُ العِلْمِ شائِك، لا يجتازُهُ مَنْ ألِفَ الأرائِك! فاستثمرْ وقتك أيها الباحث ولا تشغلنَّك الجدالات والسجالات الجانبيَّة عن آمالك وإنجازاتك؛ فلستَ مُضطرًّا أنْ تُشارك في كُلّ المعارك، وحسْبُكَ مِنها الاطلاع وثراء المعرفة واتِّقاد المدارك!
2- أيها الباحث، قد يخذلك الأسلوب والأفكار والزمان والمكان والبيئة. قد يخذلك من استشرتهم. قد تحمل لبحثك مشاعرَ متناقضةً حبًّا وكُرهًا، رضًا وغضبًا، ألفةً ونفورًا. قد يضيق صدرك بسؤالهم المُغلّف بالملامة: متى تنتهي؟ لقد تأخرت! لكنْ اعلم أنَّ كل ما سبق قد مرّ بغيرك وانقضى؛ فاعزم وتوكل على الله.
3- ينهض البحث العلمي على ثلاثة أركان: المنهج والرؤية والصياغة. بيد أنّ هناك ركنًا معنويًّا خارجيًّا يتبدى في الجراءة والجسارة من لدن الباحث؛ فكم من كاتبٍ قد تخلّف عن الرّكب الإبداعيّ والنقديّ بسبب عُقدة الكمال التي هيمنت عليه، فامضِ في طريقك – أخي الباحث - واعْلم أنَّ في نقد الخطابات المدروسة: حسبُكَ أن تُثيرَ الأسئلة، لا أنْ تُقدِّمَ إجاباتٍ جاهزة وتأويلاتٍ مُبتذلة!
4- يحدث أحيانًا أنْ تُصابَ، أخي الباحث، بِمرض العزوف عن الكتابة، وهو شعور طَبَعِيٌّ يحسّ به كثيرٌ من الكُتّابِ خاصةً عندما تتداعى في الذهن أفكارٌ مُلِحَّةٌ فتخذلك الرغبة والصياغة، والعلاج هو عدم الاستسلام والإمساك بالقلم؛ لأنك بمجرد البدء بالكلمة الأولى ستشعر بالتدفّق والامتزاج الحميمي بين الفكرة ومفرداتها. وتذكّرْ أنَّ كُلَّ ذاتٍ كاتبةٍ تتعاورها سهام الاحتباس فيصعب عليها حتى الاقتباس، فلا تبتئس، وخُذ قسطًا من الاستجمام؛ حتى تستعيدَ الهِمَّةَ والحماسة، وتمضي في البحث والدراسة. لكنْ ينبغي ألَّا تستسلم كُلَّ الاستسلام فتحدُثَ القطيعة؛ فإنَّ حالَ الباحثِ مع بحثه كحال الصديق مع صديقه؛ فكلما زاد التباعد والانقطاع بينهما أصبحا كالغريبَينِ عند اللقاء، وكذلك انقطاع الباحث عن بحثه فإنه يعمّق الغربة، ويورث التشتّت، ويعيق تسلسل الأفكار. وإذا ما أجْدَبَتْ أرْضُ لُغَتِكَ وأمْحَلَتْ أفكارُكَ فاسْتَمْطِرِ الخِصْبَ مِن سماواتِ القِراءة، ولا سيما قراءة الوحيين، وما حسُنَ من كُتب القدامى والمُحدَثين.
5- ما أكثرَ الأفكارَ البحثية، ولكنْ ثمة فكرةٌ أشبه بمُهْرَةٍ جَمُوح لا تفتأ تجوسُ خِلال الذهن لعِبًا وصهيلاً؛ فتحتاج إلى باحثٍ فارسٍ يُروّضها بالسياسة والدراسة، ويُطوّعها بالعزيمة والإصرار، والقراءة والحوار؛ فاحرِصْ على طرافة الفكرة؛ فكُلَّما كانت فكرتك البحثية نادرة المراجع ازددتَ إصرارًا عليها وتعلُّقًا بها؛ حتى إذا ما وجدتَ إحالةً أو كتابًا - من بين عشرات الكتب - يشير إليها أصبحتَ كواجدٍ كنزًا معرفيًّا لا يُقدَّر بثمن.
6- يشكو كثيرٌ من الباحثين والباحثات صعوبة الكتابة وتشتت الذهن ومن أين يبدؤون وكيف ينتهون؟ وأرى أنَّ هناك ثلاثة محاور (أسئلة) متى ما التزمَ بها الباحث وأجابَ عنها انتظمَ بحثُهُ وسهُلتْ عليه الكتابة، والأسئلة هي: أين / موضع الشاهد ورصده. كيف / الآلية التي يتمظهر من خلالها الشاهد. لماذا / الغاية الفنيَّة والرؤيوية.
7- ينبغي للباحث أن يقرأ مدوَّنةَ دراسته قراءة جادَّة؛ لأن الاستهانة بالقراءة توقعه في مآزق عند الشروع في الكتابة. ومن أبرز إيجابيات القراءة الجادة: تسهيل تقسيم المباحث والفصول على نحو واعٍ، لا أن يقلد الباحث تقسيم موضوع مشابه فيتورط. كما أنَّ القراءة الجادَّة تجعلك حاضر الذهْن بعيدًا عن الوهْن؛ فتلتقط من المراجع ما يخدم موضوعك. ومن هنا فإنَّ الباحثَ لا يكتفي بقراءة مدوَّنتهِ مرَّةً واحدةً بل يحتاج إلى ثلاث قراءات:
أ- قراءة مسحيَّة (قبل كتابة الخطة) تُفرز فيها النصوص المأخوذة من المتروكة.
ب- قراءة رصديَّة (أثناء كتابة الخطة) تُنتَخَب فيها الشواهد التي على إثرها تُقسَّم الفصول والمباحث.
ج- قراءة تحليليَّة تأويليَّة (بعد اعتماد الخطة) تُعالِج الشواهد حسب المنهج المختار.
8- يأخذ بعض الباحثين والباحثات عن مراجع ثانوية (وسيطة) ثم يحيلون إلى المراجع الرئيسة وهم لم يرجعوا إليها؛ وذلك خطأٌ في حق الذات والمعرفة، فضلًا عن الاقتباس من كتبٍ دون قراءتها كاملةً؛ مما يُفضي إلى الوقوع في الوهْمِ واللَّبْسِ والخلل؛ فقد يُثْبتُ المؤلِّفُ شيئًا في أوَّلِ الكتاب ثم ينفيه في آخره أو يستدرك عليه، فينبغي التنبُّه.
9- ليس بالضرورة أنْ تتّهِمَ فهمك أو طريقة تفكيرك حين تستغلق عليك بعض الألفاظ والمعاني في بعض الكتب الأجنبية المترجمة؛ فقد يكون السببُ عائدًا إلى ضعف المُترجِم وافتقاره إلى الاحتراف - المعرفي واللغوي والأسلوبي - الذي يمكّنه من تقديم العبارة بخفة ووضوح بما لا يُخالف مغزى النص المُترجَم؛ فإنَّ مُترجِمِي الكتب الأجنبية كسائقي الأُجرة؛ بعضهم يوصلك إلى مبتغاك بخِفّةٍ ويُسرٍ وسهولة، وبعضهم يفتقر إلى المهارة والخبرة فيأخذك عبر طُرُقٍ طويلةٍ مزدحمة، كلها منعطفات ومنعرجات ومزالق فلا تكاد تصل إلى المُراد والمقصد إلا وأنت مُنهكٌ مُتعَبٌ، هذا إن وصلتَ حقًّا ولم تترجّل قبل الوصول!
10- أخي الباحث، لا تُعوِّلْ على حِفظِكَ، ودوِّنْ كُلَّ مُهِمٍّ ولافتٍ في تخصصكَ واهتماماتك؛ فكثيرًا ما نحتاج إلى معلومةٍ كُنّا قد وجدناها على قارعة طريقنا القرائيّ ولم نحفل بتدوينها؛ فتَفَلَّتَ قائلُها والكتاب الذي وردت فيه من ذاكرتنا وطواهما النسيان.
11- من الأخطاء الرائجة عند بعض الباحثين والباحثات ظنُّهُم أنَّ جودة البحث تقاس بأسماء مشاهير النقَّاد والأكاديميين؛ فتجدهم ينتزعون منهم اقتباساتٍ لا علاقة لها بموضوعاتهم، بينما يغفلون مراجع ذات علاقة مباشرة إما جهلًا، أو مراوغةً لاستلال الأفكار وإعادة صياغتها!
12- لكُلِّ باحثٍ قارِئهُ الضمني / الرقيب الذي يستحضره أثناء الكتابة، ولا مناص من أن يترك هذا القارئ في البحث أثرًا بوعيٍ من الباحث أو بلا وعي؛ لذا ينبغي التعامل مع هذا القارئ بحذرٍ ومنهجيَّةٍ ومنطقٍ واعتدال، لا أن يُسمح له بالتدخل الفجّ، وتقزيم الذات الكاتبة، وسلب إرادتها، وتمييع هُويّتها!
13- يذهب بعض الباحثين والباحثات حين يريدون البحث في موضوعة أو تقانة معيَّنة إلى عنوانات الكتب الدالة على تلك الموضوعات مباشرة، وهو أمر مُهِمٌّ ومتواضعٌ عليه، لكنْ ثمة كتبٌ أخرى قد عالجت في فصولها الداخلية تلك الثيمات والتقانات معالجةً أكثر عمقًا؛ فينبغي للباحث التنبه، وبذل الجهد في الاستقراء والاطلاع.
14- يقع بعض الباحثين والباحثات فيما يمكن أن أسمّيه (تحنيط الدلالة)؛ ذلك أنهم حين يُؤوِّلون يكتفون بذكر الدلالة العامة للدالّ، وهي دلالة تصلح لكل نصٍّ مشابه، كأن يُؤوِّل الحذف، مثلاً، بأنه لإشراك المتلقي في إنتاج النَّصّ، والاكتفاء بذلك دون مضاعفة التأويل وربْطه بالبنية المحورية والرؤية الكلية للخِطاب!
15- يحسن بالباحثين والباحثات الذين نوقشوا وحصلوا على الدرجة العلمية - أن يُهذِّبوا رسائلهم ثم يُسارِعوا بطباعتها بدلاً من أن تظلَّ حبيسة الأرفف في المكتبات الجامعية؛ لعدّة أسباب، منها: أن يسهل تداولها فيفيد منها الباحثون والباحثات. ضمان عدم تكرار دراسة موضوعاتها. إدراجها ضمن مدوّنات نقد النقد.
** **
أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك - بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة