سهام القحطاني
تظل إشكاليات تحوّل التاريخ إلى دراما قائمة عبر العصور من زمن الأسطورة إلى زمن «نتفليكس»، وأهم إشكاليتين لهذا التحول، هما إشكالية الحدود الآمنة للحقوق التاريخية أو الخط الفاصل بين الحقيقة والرؤية الإبداعية في التحول الدرامي للحدث التاريخي أو السيرة الذاتية التاريخية، كرؤية إبداعية تتمرد على الوثائقية، وغياب هذا الخط أي حرفية التاريخ واستثماره الدرامي أو عدم وضوحه قد يحول الاستثمار الدرامي أو الرؤية الإبداعية للتاريخ إلى جريمة تزوير، فهناك دائماً حدود آمنة حامية من الوقوع في فخ تزوير التاريخ، ومع ذلك لا تسلم الفرصة الثانية لعرض التاريخ من أجندات فكرية و ثقافية.
فهل من حق صانع الرؤية الإبداعية للتاريخ الإضافة أو التأويل الذي لا يتوافق مع ظرفيات الحدث التاريخي؟.
والمسافات الآمنة بين حقيقة الحدث التاريخي والرؤية الإبداعية، قلّما يتمسك بها المبدع، منذ جرجي زيدان الذي أدخل الخط العاطفي في الرؤية الإبداعية للتاريخ كمعالجة درامية، وهو خط غالباً ما أوقعه في شبهات التأويل الخاطئ للحدث التاريخي، ثم طه حسين.
صحيح أن الدراما التاريخية هي الوجه الآخر لحفظ حيوية تاريخ الشعوب، لكنها أيضاً مدى للفتن والمغالطات والعبث بتاريخ الشعوب وأصالتها، وحيناً هي دس السم في العسل.
ولعل منطق صانع الرؤية الإبداعية للحدث التاريخي تنطلق من اعتبارات عدة قد يعتقدها، منها أن المسكوت عنه في تفاصيل الحدث التاريخي يُبيح للكاتب التأويل والإضافة، وثانيها أن حركة الحدث التاريخي القائمة على اختلاف الرواية تبيح للكاتب توسيع التصرف بالتأويل والإضافة؛ لأن اختلاف رواية الحدث التاريخي لا تضع الكاتب في دائرة الاتهام بالتزوير أو الاختلاق، فلا رواية تاريخية تخلو من الاختلاق، فالحدث التاريخي متعدد الزوايا، وكل مؤرخ ينظر إليه بزاوية مختلفة، لذا قد يكذب المؤرخون ولو صدقوا.
وصدقية الرواية التاريخية غالباً ما تقوم على أغلبية السرد وليست القطعية، ثم يأتي المبدع ليُضيف زاويته فوق تلك الزوايا عبر القالب الدرامي.
والإشكالية الأخرى هي لغة الدراما التاريخية، والتي تظل مصدر جدل، فهل الدراما التاريخية يجب أن تُقدم باللغة الفصحى من باب الواقعية الزمنية؟ أو العامية من باب صلاحية واقع المشاهد؟.
وهل تقديم الدراما التاريخية بالعامية هو أحد شبهات الوقوع في تزوير التاريخ؟.
ويمكن مناقشة هذه المسألة الجدلية من خلال الفرضيتين الآتيتين: الأولى تغليب الفصحى كونها تمثل مصداقية الرواية الحدث التاريخي على المستوى الزمان والمكان، ثم حماية من وقوع الدراما من شبهة التزوير اللغوي وتحقيق مصداقية واقعية ذلك الحدث، مع العلم هاهنا أن الفصحى هي لغة كتابة التاريخ و ليس تمثيله.
والأخرى تغليب العامية لكونها المناسبة لواقع المشاهد باعتباره الفئة المستهدفة المستفيدة من قيمة مضمون الدراما التاريخية، وتقريب تلك القيمة وما يُستفاد منها بلغة المشاهد، ومراعاة طبيعة ثقافة أغلبية واقع المشاهد الذي لا يفهم دلالات الفصحى، وباعتبار أن قيمة المضمون تعلو وتتقدم بالأولى عن قيمة اللغة في هذا المقام.
وهذه الفرضية تؤيد حق كاتب الدراما التاريخية في «التصرف اللغوي» للحدث التاريخي،كون هذا التصرف لا يُفسد حقيقة المضمون التاريخي، فقيمة ما يُستفاد منه أولى بالتقديم من قيمة مالا يُستفاد منه في ذات المقام وليس بالإطلاق.
وقد يرى المؤيد لفصحنة الدراما التاريخية أن هذا الرأي خاطئ، فكما يلتزم كاتب الدراما التاريخية بواقع الصياغة التاريخية لشكل الدراما التاريخية «الديكور» باعتبارها ركيزة مهمة في الواقعية التاريخية، فكذلك اللغة لا تقل أهمية في تلك الواقعية.
إن الفصحى هي لغة كتابة التاريخ وتوثيقه، وليس بالضرورة أن تكون هي اللغة المحكية التي كانت شائعة في المجتمعات التاريخية عند العوام، ما أقصده أن لغة الحكي هي لغة ذات وجود حقيقي في كل زمان و مكان، فالعامية موجودة في المجتمعات التاريخية، قد نجد آثارها في مفردات المعاجم أو الأمثال.
وبالتالي فمحاكاتها بالعامية العصرية لا تدخل ضمن شبهات تزوير التاريخ أو تشويهه، وهذا الرأي لا يخلو من صعوبة في صياغة محاكاة للعامية المحكية في زمن تاريخي ما، لعدم وجود مراجع لتلك العامية. وهو ما يعيدنا إلى خيار الفصحى كلغة للدراما التاريخية .
ولعل حلّ مشكلة لغة الدراما التاريخية قد تكون في إرضاء الطرفين، فاللغة الأساسية تكون الفصحى ويُقدم توضيحاً لها بالعامية،كما نفعل في ترجمة المسلسلات الأجنبية، وبالتالي نحقق مبدأ الواقعية سواء في مستواها التاريخي أو التزامني.
كانت وستظل الفصحى لغة العرب، فكل عربي يقرأ القرآن ويفهمه وكل عربي يقرأ الكتاب التعليمي والثقافي ويفهم لغتهما والشعوب العربية شعوب فتية فالفئة الكبرى من الشباب هي فئة تُجيد القر اءة والكتابة، ولذلك ليس لدى الشعوب العربية إشكالية في فهم الفصحى المبسطة، إنما الإشكالية في المثقف العربي الذي تمحور حول ذاته ونسي دوره الأساسي في توطين الفصحى كلغة درامية وترسيخ تداوليتها،والدراما خير وسيلة لترسيخ تداولية الفصحى، فالشعوب على ملة مثقفيها.