علي حسين (السعلي)
دلق فنجان القهوة على الطاولة، وهو ذاهب تمّزق جزء من حذائه، هناك عتبة من درجتين لم ينتبه لها تعثّر فسقط، قام كالأسد بعد أن نكّس رأسه خجلاً من المارة وعدّل «تيشرته» سار مختالاً في مشيته ساحباً قدمه في منتصف حذائه، وهو راكب سيارته «الكرسيدا» تذكّر قبعته تهادت منه حين مال فهوى, وهو في الطريق أعاد جملة من صديقه الحاسد ترنّ في رأسه قبل أن يفعل فعلته بسكب فنجانه على طاولة صديقه هذه الجملة:
أنت الحالم العالم، المثقف الأديب.. لكنك منزوٍ في ركن كتبك بمعنى : دائماً على الصامت.
حين اقترب من بيته، بعد أن أطفأ المحرك وقبل أن ينزع المفتاح من رقبة المقود، تذكر لبناً من الطلبات وبريالين خبز وعلبة ال إم أحمر .. تثاقل كسلاناً، فتح باب شقته وفي قفلته الأخيرة تماهى لسمعه صوت زوجته المزعج وسؤالاتها ( لماذا لم تأتِ بهذا وهل نسيت ذاك . يوووه يلعن أم الحالة, قالها بعد أن أخذ مفتاحه هارباً.
عند محطة الوقود، يبصر في ملامح العامل مرة ومرات في كتابة الأخير الذي هو الآخر أتلفت كل كراتينه بعد أن تعرّضت غرفة ولده الكبير لحريق إثر ماس كهربائي.. تمتم بكلمات لا يفهمها إلا هو.
- كم حسابك يا صديق ؟
- خمسون ريالاً
- لالا سأحاسب على سبعين ريالاً
- يا مدير كيف كذا أنا ما في معلوم!
- عشرون لك ولصاحبه ذاك
شكره داعيا له بالتوفيق .. أخذ بعض متطلبات بيته وطبعاً «إل إم الأحمر» وجملة صديقه لا تفارق عقله». أنت على الصامت»، حين وضع مفتاح باب شقته وقفله مضى وكأنه يمشي على بيضٍ، فتح جزءاً من باب غرفة النوم بهدوووووء، رقص فرحاً في مكانه دون صوت، مال بجسمه على طرف السرير دون ضجيج، نام وهو لا يعلم هل وصل رأسه على مخدته أم لا! حين حرّك جنبه الأيمن تنهّد فكتم صوته، سرق بصره لزوجته فلم يجدها حمد لله وأكمل نومه فأردت جناحي يده، مغمضاً عينيه مبتسماً لمطاردة حِلْمِه الثاني، قبيل آذان الفجر اسيقظ فإذا هي أسفل السرير أمامه بشرشف الصلاة وسجادتها المهترئة تقرأ آيات، كالعادة قراءة مكسرة إن سمعها سيبويه لجلدها مئة جلدة، وكلما اقترب من غرفة الخلاء قبضت على رجله بيدها الضخمة وهو كالصنم، قائلاً بينه وبينه نفسه « يارب سلّم سلّم!» صكّت المصحف : وين كنت يا حبيبي؟ لم يرد عليها، أعادت السؤال بطريقة أكثر سخرية : يا آدمي أنا أسألك وين غديت يا «بيبي»؟ نزع يدها محوقلاً لبس ثوبه، ثم نزعه، فأخذ تيشرت أسودَ مع بنطال أحمر ومضى سيراً إلى المسجد، انتظر المؤذن الشيخ طاهر الذي استغرب مجيئه في هذا الوقت على غير المعتاد!
ابتسما معاً وصلّى تحية المسجد وهو يدعو ربه، جلس في الصف الأول خلف المحراب مباشرة، فتح القرآن يقرأ من أول سورة البقرة، وكل من يأتي ينظر إليه مستغرباً فور انتهاء صلاة الفجر وقبل أن يكمل التسبيح ذهب مسرعاً!
وقف محتاراً أين يذهب؟! قرر أن يفطر عند فول خلوفة المشهور! حين أراد العودة لبيته، وجد زوجته أمامه كالسعلية، وبجانبها حقيبة ثيابها، واضعة يديها على خصرها، متكئة على رجل، والأخرى مروّحة بشكل دائري مرّ من أمامها فلطمته على قفاه قائلة: خلّك كذا دائماً على الصامت!
وقعت كلمتها عليه كالجمر تحرق أضلاعه، طلقها وطردها، وجلس يكتب قصته الجديدة ( في منتصف الجبهة ).
سطر وفاصلة
يبقى المثقف مختبئاً داخل كتبه، حتى يخرجه أنين الورق.
المثقف علامته المتثاقفة قلمه وخطّه، وشعاره البارز نبض حروفه.
المثقف لا يسعى لمكانةِ ما، بل بزمانٍ ما توصله لمكانتِهِ.
الوجع الحقيقي لأي مثقف وأديب هو نسيانه على غسيل السطور منشوراً.
يحتمل المثقف كل الصدمات إلا صدمة عدم التقدير لكتبه، والذلّ لغير حرفه.
المثقف يحاول الحضور، لكن هناك من يريد أن يغيّبه بحجة ليس شريكاً في الأدب!