د. شاهر النهاري
كثيرة هي الأغنيات، التي سطر بها الطرب العربي تراثه، الفني والثقافي والوطني، والحماسي، وعزز الأصالة في معظم مجالات الحياة، وكان للترنيمة الدينية وقفات كثيرة، غير أنها تظل أغنيات مواسم، تنسى بعد عدة شهور، وتأتي أغنيات جديدة مع الموسم الجديد، لتقوم بنفس الدور.
ولكن المطرب الشعبي محمد عبدالمطلب، والذي ولد في البحيرة 1910م، غير قوانين اللعبة الرمضانية الفنية، فقدم أغنية «رمضان جانا»، والتي صورت المشاعر الدينية لموسم يتكرر كل سنة، وتظل هذه الأغنية مستعادة بكل شغف طفولي في كل المواسم، ترنيمة راقية حميمة قريبة للقلب، تؤطر وتحتفي بالنسك الغالي على جموع المسلمين فوق وجه الأرض، لدرجة أنها أصبحت ترنيمة الأطفال ومحلات الشوارع، والبيوت، منذ يوم صدورها، وما زالت تعيش في وجدان الشعوب العربية قاطبة حتى يومنا مثل أنشودة جلاء صوفية تشيع السلام والرحمة والسعادة بقدوم ومسار مجريات شهر الخير.
والأغنية من كلمات حسين طنطاوي، وألحان الفنان محمود الشريف، حيث تمكنا من صياغتها بنفس الوقار والروح المطمئنة، التي يتوازن فرحها بالحدث الرمضاني، ودون ضجيج أو اهتزازات تخرج عن هيبة الشهر ووقاره.
وتشعر أثناء سماع الأغنية (الأنشودة)، أن المطرب يخرج من بيته في أول ليالي رمضان مستبشرا، يجول بفرحته بين الحارات والأسواق، والناس تحيط به أثناء تنقله، وهو يدير معهم ما يشبه الديالوج المنغم الموقع، فلا ينتهي من جملة، إلا ونسمع السائرين جواره يرددونها معه، ويكملون الصورة، لتكون الأنشودة أقرب للروحانية وللشارع، والبيت، والبلكونة، وللجالسين على القهاوي.
ويبشرهم بحدث يحبونه وينتظرونه:
«رمضان جانا.. وفرحنا به.. بعد غيابه.. وبقاله زمان».
ويحثهم أن يجاهروا بفرحتهم، خصوصا وأنها لشهر كامل تتكرر فيه بركات الشهر الفضيل:
«غنوا وقولوا.. شهر بطوله.. غنوا وقولوا: أهلا رمضان.. رمضان جانا.. أهلا رمضان.. قولوا معانا».
ثم ينهي الجملة الموسيقية الجماعية بطريقته الخاصة، وبصوته الطربي، الذي يود لو يتمرد على اللحن، ولكنه يعرف حدود سكينته، وأن رمضان يكمن طربه في وقاره: «اهلا رمضان.. رمضان جانا».
ثم يدخل في عتب مع الشهر الحبيب الكريم: «بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك».
ويزيده حضوة يستأهلها: «وفي السنة، مرة تزورنا، وبنستناك».
ويشرح حال الجميع في أنفسهم وبيوتهم ويقينهم:
«من امتى واحنا بنحسبلك.. ونوضبلك.. ونرتبلك».
وكأن الفرحة لا تسعه فيعود للترنيمة الأصيلة:
«أهلا رمضان.. رمضان جانا.. قولوا معانا». فيزيد النشيد شيوعا بين المرددين معه، وهو يكررها مرات ومرات «أهلا رمضان.. قولوا معانا.. رمضان جانا وفرحنا به، بعد غيابه.. وبقاله زمان، غنوا معانا شهر بطوله.. غنوا وقولوا، أهلا رمضان، رمضان جانا».
ثم يزيد من علامات الاحتفاء بالشهر، فكأنه يسوق عليه الدلال، ويمازحه كعريس جديد يتجدد: «يوم رؤيتك.. لما تجينا.. زي العرسان!.. نفرح وننصب لك زينة أشكال وألوان».
ويتمادى في الشرح للتفاصيل الحميمة: «في الدخلة نبقى.. نطبل لك.. ونهلل لك آه ونقولك».
فتصرخ الحناجر من حوله ومن البعد: «أهلا رمضان.. رمضان جانا.. قولوا معانا.. أهلا رمضان جانا».
ولا ينسى أن يحكي عن عادات رمضانية يحبها الناس، وكانوا يعيشونها قبل الضجيج الذي نعيشه اليوم، فكان المسحراتي أمنية الصغار، وساعة نظام الكبار، فيؤكد عليه: «يا مسحراتي.. دوق لنا.. تحت الشباك».
ويؤكد له أنهم يحبون مروره ودقه على طبلة اليقظة، وأنهم يسعدون بأناشيده الرمضانية المنغمة: «سمعنا.. وافضل غني لنا.. للفجر معاك».
ويكمل: «واعمل ليلاتي.. هوليلة.. ثلاثين ليلة.. حلوة جميلة».
ويعيد بعد ذلك التيمة الجميلة، والتي يتلاقفها منه كل من يسمعها: «أهلا رمضان.. رمضان جانا.. قولوا معانا.. أهلا رمضان جانا.. قولوا معانا.. أهلا رمضان.. رمضان جانا.. وفرحنا به.. بعد غيابه وبقاله زمان.. غنوا معانا شهر بطوله.. غنوا وقولوا.. أهلا رمضان.. رمضان جانا».
من وجهة نظري الخاصة أن هذا المطرب الشعبي قد رسخ ملامحه في الأنفس، وتمكن من تثبيت جماليات تلك الصور في مخيلة الشعوب العربية، وأنه قد تمكن من جعل أنشودته حرز من التراث الأصيل منذ معانقتها للأثير على عموم إذاعات العرب، وحتى يومنا لا زلنا نجد فيها المعنى والروح والسكينة.
أغنية كانت بسيطة التكوين، سواء من المؤلف، أو حتى من الملحن، ولكنها كانت صادقة لا تبحث عن الضجيج، بقدر ما كانت روحانيتها نظرة للمستقبل، وبأقل التكلفة، بينما نجد عديد من الأعمال الفنية والألحان العربية تناولت رمضان، ولكنها بضخامتها تضمحل، فلم تتمكن من البقاء أمام هذا المطرب، الذي كان يهز رقبته بشكل يدلل على بلوغه قمة الطرب، وهو يؤدي أغنية للزمن، والإنسان، والعادات والتقاليد.
مطرب عميق مؤثر قدم أيقونته الرمضانية مع رصيد من الأعمال الناجحة، وغير القابلة للاستنساخ: «وبتسأليني بأحبك ليه، اسأل مرة عليه، السبت فات، الناس المغرمين، وساكن في حي السيدة، حبيتك وبأحبك، مبيسألش عليا». أعمال أسست للتخت الشرقي، وللفن القريب من الشارع، والقريب للنفس في نفس الوقت.. رحمه الله.