د. حصة المفرج
تنطلق فلسفة الإجرام منذ عهد الفلاسفة الأوائل من تفسير للجريمة يرتبط بالشر والفساد والجشع والكراهية، بل هي عين الخطيئة. ومع تعاقب النظريات التي بدأت بدراستها انطلاقًا من عوامل فردية وأخرى اجتماعية، لم تستبعد تلك النظريات البعد الثقافي الذي يمكن أن يكون مؤثرًا في طبيعة الجريمة وزمنها وأسبابها، وفي تعيين المجرم المعتدي والآخر المعتدى عليه، وما يترتب عليها من عقوبات، وما تسفر عنه من عواقب.
ومع تنوع الجرائم وتعددها، وانتقالها من مستويات فردية محدودة إلى مستويات جماعية أكبر وأعمق؛ فإن الصراع الدائم مع الحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين كان محركًا مهمًا لفلسفة الإجرام الأدبية كما تصورتها بعض الروايات العربية.
ولا أتحدث هنا عن تصوير الجرائم والانتهاكات الواقعية، بل عن ممهدات تشكل هذه الفلسفة، وتصوراتها الذهنية؛ التي تبرر مثل هذه الانتهاكات، وتعلل مثل هذه الجرائم.
وليس المقصد حضور الإجرام نفسه بوصفه ممارسات وسلوكيات مدمرة وانتهاكات بقدر ما هو حضور للفلسفة التي قام عليها، والمعايير التي يحتكم إليها المجرم نفسه في مقابلة تُهَم الآخرين له بتهم مضادة أخرى، أو الابتداء بتحديد معايير أخرى تجعل منه مجرمًا، سواء أكان تحديدًا مباشرًا أم غير مباشر، بوعي منه أو بدون وعي، ثم كيف يرى نفسه في دائرة الإجرام هذه، سواء أكان ذلك من منظور الصهيوني نفسه أم من منظور رؤية الآخرين له؛ ذلك أن توصيف ظاهرة الإجرام لا يبدأ من حيث عواقب الفعل نفسه فحسب، وإنما مع ما يسبقها من ممهدات؛ تعلل وتحلل وتدافع وتهاجم، حتى يستقر في ذهنها أن ما تفعله ليس إجرامًا، وأنها إنما تمارس حقًا طبيعيًا بالاستناد إلى جملة مؤشرات يمكن اقتناصها من حضور الظاهرة في الرواية العربية. حتى إنها تعول على هذه الأطر التي تحكمها في ممارسة الحجاج وإقناع الآخرين، وهو ما يبرر ما يتلوها من انتهاك وتجاوز لحدود الإنسانية.
ولا أتحدث أيضًا عن صورة(اليهودي) وكيف تمثلته الرواية العربية بوصفه فردًا أو جماعات، تعايشت مع غيرها من الفئات والطوائف الأخرى، وكان لها مالها وعليها ما عليها أيضًا من منطلق سمات الإنسان نفسه، بعيدًا عن جنسه أو دينه أو انتمائه لدولة أو أخرى؛ إذ إن هذه الصورة قد تكشف ملامح سلبية كثيرة ومعها بعض ملامح إيجابية، وإن طغت السلبية، لكنها تظل في حدود صورة الإنسان أيًا كان، مع عدم إنكار وجود روايات صوَّرت(اليهودي) في صور سلبية متواترة تكشف عن نمطية الصورة، وقد تناولتها دراسات كثيرة ليس المجال هنا الحديث عنها.
ومع ما في مدونة روائية كبيرة تناولت القضية الفلسطينية بأبعادها المختلفة من سرد تاريخي لهذا الإجرام والأحداث المحيطة به، لتأتي السرود التخييلية متوائمة مع هذا البعد الواقعي، ومؤسسة لمعمار فني يدعم بشخصيات وأحداث تخييلية جديدة، لكنه لا ينفصل عن البعد الموازي للواقع أيضًا؛ فإن اتخذت الروايات مسارات تخييلية متنوعة ذات علاقة بالصهيونية ومخططاتها وإجرامها، إلا أنها لم تنفصل عن مُؤسّسات الجريمة ذات البعد الواقعي؛ إذ تؤكد بعضها، وتنقض البعض الآخر، وقد تُنْطِق الصهيوني نفسه بما ينقض حججه.
وعليه؛ سأعرض بعض جوانب فلسفة الإجرام في توصيفها وتراتبية خطواتها وإجراءاتها لا من حيث استعراض الجرائم نفسها؛ إذ تنطلق هذه الرؤى السردية من رؤية مضادة لما يتردد من مقولات الصهاينة أنفسهم ومبرراتهم لاحتلال فلسطين، كما قد تكون مضادة لما ورد في السرد الصهيوني نفسه-وإن لم أطلع عليه-لكني أفترض بدءًا اعتماده على هذه المقولات، وسعيه نحو ترسخيها ولاسيما في تناوله لصورة العربي/ الفلسطيني، وقلبه لكثير من المعادلات: الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه، المغتصب وصاحب الحق، المحتل وصاحب الأرض، وغيرها.
وإذا ما رمنا النظر في الأبعاد التخييلية وعلاقتها بالتجارب الموازية للواقع، فيمكن من قراءة بعض المقولات التي عولت عليها الروايات أن نحدد ملامح هذه الفلسفة، وهذه المقولات قد تتردد في الواقع، كما تنعكس في عالم التخييل، وتتخذ عادة أداة أو سلاحًا لمقاومة الإجرام، أو توصيفه، أو نقض مزاعمه، ثم نتحدث لاحقًا عن تداعياتها.
ولعل أول مقياس لتوصيف هذا الإجرام يمكن أن يؤخذ من أفواه اليهود أنفسهم على قاعدة (وشهد شاهد من أهله) حين يُجَرّمون ما تقوم به الصهيونية من أفعال ويهاجمونها، ويعلنون عدم تأييدها والبراءة منها ومن أهلها. وهكذا يبدو اليهودي في بعده الإنساني، ويتمثل الصهيوني في بعده السياسي والعنصري والإجرامي؛ فأول توصيف للمجرم أنه ليس يهوديًا بل هو صهيوني، وهناك فرق.
هذا البعد تبنته روايات كثيرة منها رواية (عاشقان من بلاد الرافدين) للعراقي جاسم المطير، إذ يرفض اليهودي في الرواية أن تكون اليهودية والصهيونية شيئًا واحدًا؛ بل إن الصهيونية تفرق بين اليهود أنفسهم، وتصنفهم إلى أوروبي وشرقي، ولا تتعامل معهم من المنظور نفسه.
وتطرح رواية(أعدائي) لممدوح علوان هذا التمييز، حين حاول اليهودي الخروج من الحركة الصهيونية، ورغب في مغادرة فلسطين « أنا لن أبقى في هذه البلاد. ما عاد لي فيها مكان. لا أريد حلم صهيون ولا حلم إسرائيل. أريد أن أهاجر» ليكتشف مرارة الواقع الذي يميز بين اليهود الأجانب وغيرهم حتى في مسألة الهجرة، ويتخذ القرار بألا يكون صهيونيًا ويكتفي بأن يكون يهوديًا فحسب» لا يحق لنا أن نهاجر... الذين هاجروا هم اليهود الأجانب فقط...لم يسمحوا لأحد بالوصول إلى الباخرة إلا إذا كان جواز سفره يدل على أنه من دولة أجنبية» مع ما يحمله ذلك من دلالة عدم الانتماء واللاوطن طالما تعددت الجنسيات الأصلية.
ثم تتوالى مقاييس أخرى لتوصيف الصهيونية وفلسفة الإجرام لديها، ولعل أولى خطوات تشكل هذه الفلسفة التي تمثلت في الجريمة الكبرى التي صورتها الروايات تنطلق من فكرة اغتصاب أرض وسرقة هوية دون وجه حق، وهو ما عبرت عنه رواية (باب الشمس) لإلياس خوري «سرقتم البلاد وطردتم أهلها، وتأتون لتعطوني دروسًا في الأخلاق».
وإذا كانت هذه وجهة نظر العربي الذي لا يرى في فلسطين إلا أرضًا مغتصبة؛ فإن الصهيوني الذي يعارض هذه الفكرة، يسعى إلى نزع جذور العربي واستبدالها بجذور وهمية كما ورد في رواية(أعدائي)» نحن لا نصدق كيف نجتذب مهاجرًا وخاصة في سن الشباب مثلك لكي يسكن ويعمل ويمد جذوره في الأرض وأنت تريدين أن تقتلعي جذورك وتتركي كل شيء؟» وشتان بين جذور راسخة وأخرى زرعت للتو. حتى إنهم وجدوا في المزروعات من قمح وغيره سبيلًا إلى بناء مستقبلهم الذي يحلمون به على أرض فلسطين» هذا القمح هو بذرة المستقبل الصهيوني. نحن نمد جذورنا هنا بالتين والعنب والزيتون»؛ إذ إن سرقة الأرض تعني السيطرة على خيراتها، وهذا ديدن المستعمر في كل زمان ومكان.
ويتخذ البعد الإجرامي صورة أخرى، تتيح للصهيوني أن يتصور نفسه الأفضل من بين الأجناس البشرية، ومن حقه أن يعيش ويموت الآخرون الذين لم يذعنوا لمخططاته، ولم يصدقوا أكذوبة(الأفضلية) ليأتي الرد عليه على لسان العربي المسلم في رواية(أعدائي) «أنا أعتبرك عدوي وعدو شعبي وعدو ديني، ثم عدو الجنس البشري كله الذي ترى نفسك أفضل منه، وترى أنك ستنقله من الهمجية إلى الحضارة».
وتبدو المفارقة في إهداء الرواية نفسها؛ إذ ينطلق بدءًا من تحديد محوري الرواية الرئيسين (العربي والصهيوني) قبل أن يبدأ نص الإهداء نفسه الذي يوجه إلى الأقربين؛ اعتذارًا لهم عن الانشغال بكتابة العمل. ويغدو كل منهما-العربي والصهيوني-هو الآخر مقصرًا في حق أبنائه، مع اختلاف الحجة؛ فالعربي يعلل التقصير بمحاولة بناء مجد شخصي» حاولت دائمًا أن أنجز شيئًا يعادل غيابي ويعوضه أو يبرره... سأجعلكم تفخرون أن كان لكم هذا الأب»
أما الآخر، فلا يتوجه مباشرة بالخطاب لأبنائه، وإنما ينقل عنه « هناك ما سيعوضهم عن افتقادي. وهو الوطن الذي أساعد على بنائه» ولا يخفى ما في دلالة الحضور والغياب هنا من إشارة إلى انتماء العربي إلى وطنه، وافتقاد الصهيوني للوطن الذي يسعى نحو تأسيسه، وما عكسته الرواية بعد ذلك في أحداثها من ترسيخ لهذه الفكرة، وسرد لتشعباتها.
ولطالما كانت فكرة الأفضلية ممهدة للهيمنة التي تنطلق من ثنائية القوة والضعف، والمستعمِر والمستعمَر، كما أن بدايات السيطرة انطلقت من فكرة تحسين المناطق المستعمرة وادعاء القلق على الشعوب المغلوبة؛ رغبة في تجويد الحياة فيها، وسعيًا نحو أخذهم إلى ركب الحضارة التي تخلفوا عنها، مع اختلاف بلا شك في المنطلقات، وطبيعة الدول، وما يرتبط بأهدافها الرئيسة والثانوية.
وتستمر سلسلة الأكاذيب، وتزييف التاريخ مرتبطة بنظرية المؤامرة الصهيونية، التي يعيها اليهودي نفسه الذي يصبح معاديًا للصهيونية ومؤامرتها؛ لذا كان اليهودي في رواية (أمريكانلي: أمري كان لي) للمصري صنع الله إبراهيم يردد: «على اليهود أن يبقوا في بلادهم الأصلية».
وهو طالب أمريكي يهودي أراد أن يسجل رسالة الدكتوراة عن المؤرخين في إسرائيل؛ ليكشف عن زيف الادعاءات الصهيونية حول تاريخها، مستشهدًا بما ذكره أحد المؤرخين حين قال: «لقد كذب زعماؤنا علينا عندما أخبرونا أن عرب(اللد) و(الرملة) طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم» ثم لا يفتأ كاشفًا عن مزيد من الأكاذيب بالأدلة التاريخية القاطعة « أما كذبة الأكاذيب التي أسموها(الاستقلال) فهي في (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)».
ومن نافلة القول أن المجرم الجاني قد يتقمص دور الضحية والمجني عليه؛ إذ يروي معاناته وهو يمارس الإجرام، ويضيق بمن يواجهه، ويرى نفسه بريئًا دائمًا، وهو ما صورته رواية (تفصيل ثانوي) للكاتبة عدنية شبلي؛ إذ تقوم الرواية على صوتين: صوت المجرم الصهيوني، وصوت الضحية العربي/ الفلسطيني.
تقلب الكاتبة المعادلة لتبدأ بصوت المجرم؛ لنقتنص منه فعل الإجرام وممهداته، وكيف يمكن تزييف الحقائق وادعاء المظلومية، وتقمص دور الضحية، فهو صهيوني يعيش مع عصابته التي جاءت بمشروع التطهير العرقي، وتشريد الفلسطينيين، واغتصاب أرضهم، لكن الكاتبة تُنْطقه بما يشعر القارئ بأنه الضحية فعلًا، وتتوالى رواياته حتى تنكشف الحقائق شيئًا فشيئًا.
يظهر الصهيوني وهو يروي معاناته في المعسكرات، وليالي التدريب وحملات القتل والاغتصاب، لا من منظور الرأفة بالمجني عليهم، أو عدم رغبته بالمشاركة في الإجرام، وإنما من منظور معاناة زائفة لمن كان يترقب أن تكون السبل ممهدة أمامه؛ حتى يمارس ذلك الإجرام كله دون أن يواجه من يحاول إيقاف المخططات القذرة، أو يستنكر ما يمارس من أفعال شنيعة، علاوة على مشاعر الخوف التي تسيطر عليه في كل لحظة خوفًا من مقاوم يرديه قتيلًا، وهو لا يتورع عن تصوير تضحيته بهذه المعاناة، والقدرة على الانسجام مع ظروفها؛ في سبيل الوصول إلى أهداف الإجرام والمجرم نفسه.
لتنتقل إلى الصوت الثاني(الضحية) الذي يكشف الحقائق تباعًا، ويكون حضوره ردًا على حضور ذلك المجرم، ونقضًا لأطروحته حول معادلة المجرم والضحية.
ولعل ما تبثه الرواية من أحداث على لسان هذا الصوت، يثبت الاستخفاف بمعاناة الأول وتقمصه دور الضحية؛ فقد كشفت عن الوجه البشع للصهيونية ودورها الإجرامي، وتعاملت مع تلك المعاناة التي يتحدث عنها بوصفها حججًا واهية؛ للإيهام بأنه هو الآخر يمر بمعاناة نتيجة مقاومة الطرف الآخر، وهو لا يبذل جهدًا في إنصاف هذا الآخر، بل تتعاقب جرائمه دون هوادة؛ لتكشف عن زيف فكرة تقمص دور الضحية، وإنكار دور الجاني في ذلك كله.
وبعد؛ فإن كان للأدب أن يكون شاهدًا على الإجرام الصهيوني؛ فإن شهادته لا تقف عند هذا الحد، بل تتجاوزه إلى الجوانب الأخرى التي يشهد بها الواقع، ويتلقفها التخييل، في محاولة لدحض السرديات الصهيونية التي ما فتئت ساعية لمحو الذاكرة العربية الفلسطينية، كما أن التحول من الواقع أو موازاته محكوم بضرورات يفرضها التشكيل الأدبي الذي أخضع هذا التحول إلى وعي مختلف؛ فثمة واقع يستثمر ممكنات العالم المتخيل، ومتخيل يسبر الواقع بالأمس واليوم وقد يحرك المستقبل، أو يعيد قراءة كل منها من منظور جديد ومختلف.
** **
- أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود