شوقية بنت محمد الأنصاري
ما إن تحط أنظارك على معرض كتاب القاهرة 2024 حتى تأخذك تلك المسارح الصغيرة المستقبلة للوفود من بوابات المعرض في تجليات حضارية ممتعة، لتجد أصوات الأهازيج الشعبية والأناشيد الوطنية تتصاعد من الكبار قبل الصغار فكانوا أبطال القصة قبل أن تُؤدى على خشبة المسرح، هذا الأداء الجماعي أبطاله أطفال المدارس في حاضنة موسيقية، تجاورها ظل العرائس ومسرح فني بأبسط المظاهر، كأنه يجسد للجيل امتداداً ثقافياً فنياً مسرحياً تمازج فيه التناغم الثلاثي الفسيولوجي والسوسيولوجي والسيكولوجي، ويبقى إيمان الثقافة المصرية بقوة حضور المسرح ضمن فعاليات المعرض تتعزّز به مهارات الجيل الفنية، وهذا ما أكده (مارتن توين) حين وصف مسرح الطفل بقوله: «من أعظم الاختراعات في القرن العشرين وأقوى معلم للأخلاق، وخير دافع للسلوك الطيب، اهتدت إليه عبقرية الإنسان».
إن المدخل للمقال لم يتأتَ إلا من صمت طال في مواجهة التحديات، فقد عدت بعد الزيارة القصيرة لمعرض كتاب القاهرة، وما شاهدته من تجارب فنية حرّك فلسفة المحاكاة على واقع مسرحنا المدرسي، لأستكمل بثّ روح التنافسية في منظومة العلم من المدرسة إلى المتعلم، بتنظيم ورش العمل التفاعلية والدورات غير المتزامنة والمواثيق والشراكات مع الأسرة والمعاهد التدريبية والجمعيات الأهلية، كل ذلك في سبيل دفع الجيل ليواكب حراك مسابقات المهارات الأدبية والفنية والتقنية التي تتشارك بها وزارتا (الثقافة- التعليم) وقد افتقدنا التكاملية في صناعة بيئة محفزة للاستدامة على دعم مواهب جيل الآداب، غاب المسرح المجهز بديكوراته وصوتياته وحضر الطفل بلهف وشغف وقد كتب مسرحيته وجهز أزياء تمثيله وأنشد القصيدة من لحن معزوفته الفقيرة، مرتكزاً على المعرفة المنهجية وربطها بالواقع لتستثير تفكيره الناقد بإنتاج قصصي ومسرحي وشعري، يشاركه الوعي التربوي التعليمي الثقافي (المعلم).
نقف اليوم أمام محفزات يثيرها المتعلم (الشغف) وأمام تحديات (المسرح المدرسي) وعجز البيئة المدرسية في استدامة صقل مواهب الجيل كركيزة من تخطيطها المدرسي، وهنا المحك عن رؤية التعليم كجودة حياة إلى أين تتجه! هذه القراءة الواقعية لا تشكّل أمام المعلم المثقف سوى إيمانه بتجاوزها، لتوظيف وتيسير الفرص الأدبية والثقافية والتقنية، إن كان هناك فاصل فهو المورد البشري في حاضنات العلم، وقد اكتظت بأكثر من 6 مليون متعلم بمرحلة التعليم العام، وهو التحدي الأكبر أمام وزرة (التعليم) في تشكلات مظاهر (المسرح المدرسي الفقير)، كيف ومتى سيكون للمسرح جاهزية مكانية في كل حاضنة مدرسية، بمقوماته الفنية من الصوتيات والإضاءة؟ لا نطالب بالتكلفة بقدر ما ننتظر البساطة والوفرة، فلن تكتمل استثارة المتعلم لتوظيف المهارة إلا من خلال مسرح يذيع فيه للجمهور ما يبرهن موهبته بجدارة، خاصة وأن وزارة الثقافة بشراكتها قدمت للتعليم فرصة النهوض بالأفراد وبقي المكان وجاهزيته هو المحك للمدارس في توطين لغة الاستدامة لرعاية المواهب.
وعلى الجانب الآخر مؤشرات الرعاية والشراكة بين هيئة المسرح والفنون الأدائية بوزارة الثقافة ووزارة التعليم انطلقت بجدية في تدريب أكثر من 25 ألف معلم ومعلمة ومشرفي نشاط بمختلف مناطق السعودية، بالتعاون مع جامعة موناش الأسترالية، حيث بدأت من شهر ديسمبر2022م حتى مارس 2023م، ثم استكملت في أبريل 2023 حتى نوفمبر 2023م، لتستكمل المرحلة الثالثة والرابعة من شهر فبراير2024م حتى ديسمبر 2024م، في سبيل نشر ثقافة المسرح المدرسي بتأسيس جيل مهتم بهذا الفن وتنمية المهارات في التمثيل والإخراج بما يثري المحتوى المسرحي وتنظيم المنافسة لمسابقة المسرح المدرسي لأفضل 1000 مسرحية بمبالغ تصل 3 مليون ريال، وهذا الجهد للأسف لم يستثمر إبداع المعلم المنغمس في المسرح دراسة وتأليفاً وإخراجاً، رغم هذه المحطات التدريبية مازال تجاهل المبدع يأخذ حيزاً من ثقافة المؤسسات وسلطة قرارها.
إن هذه القضية أيقظت منذ سنين المثقفين والفلاسفة ليبحثوا ويبتكروا الحلول فكان للفنان البولندي (جروتوفسكي) السبق في الحديث عن (المسرح الفقير) للتخلص من ضجيج التكلفة في أدوات المسرحية من ملابس، وديكور، ومؤثرات صوتية، وغيرها، بالتركيز على صقل المهارات الأدائية للممثل متجرداً من أشكال البذخ كافة من وجهة نظره، فلا موسيقى سوى أصوات الممثلين، وحركاتهم، وتعبيرات أجسادهم، وانفعالاتهم المتناغمة مع اللحظة، يقول في ذلك: «تنازلنا عن اللعب بالضوء، ومنحنا ذلك قدرات هائلة في مجال تطبيقات الممثل للضوء النابع من المكان الساكن، ووعي الممثل بالظل».
وقد تحدث المسرحي السعودي (فهد ردة الحارثي) في إحدى مقالاته في صحيفة الجزيرة (العدد 266 بتاريخ 15 محرم 1430) المعنون بـ(المسرح الفقير عالم متجدد) للتنبيه عن ثروة الفن في الممثل قبل جاهزية المكا ن: «يكون الممثل في هذا المسرح صاحب مواصفة خاصة تجعله يتحدى نفسه والآخرين علناً، وهذا الممثل الذي يستخدم جسده في تجسيد كل أمر، وبالتالي يقوم هذا الممثل بتدريب نفسه تدريبات شاقة لكل أجزاء التنفس والصوت والمرونة والحركة والإشارة وبناء الأقنعة بواسطة عضلات الوجه ومجموع تلك التدريبات تجعل الممثل قادراً على إظهار أصغر الدوافع بواسطة الحركة والصوت وليس الغرض من التدريبات في منهج جروتوفسكي تكديس المهارات المختلفة، إنما حذف أي معوقات جسدية أو نفسية قد تعيق كشف ذاته وقدراته».
إن النظرة للواقع بالمدرسة في جاهزيتها لمنافسات المسرح المدرسي، لا تتجاوز سوى ذلك الخطاب المعمم بين الأوساط، ودون أي تكلف في بث رسالة ثقافة الوعي بأهمية المسرح للأجيال، مما يستدعي هنا همة المعلم المسرحي المثقف الملازم مباشرة بالمواهب، لينطلق من تلك الرسالة التأصيلية التي انبثقت منها جماليات ظلال الفن وأصول المسرح من إبداع الإنسان، فقد كانت البداية في المسرح الفقير، مرتكزاً على النص الملهم في فكرته ورمزيته، وعلى الجرأة لمواجهة ومجابهة الجمهور في لغة تواصلية بارعة، تبرز الممثل وتثيره ليبتكر من مهارات الإقناع ما يميزه.
ونجني من رحلة التدريب والتوجيه وصقل المواهب في التمثيل والأداء، ما يستدعي الشغف للمتعلم ويستثمر عقله وروحه، ويزيده ثقة في إقناع جمهوره بما يود التعبير عنه، فيكتب نصه المسرحي ويؤديه مع أقرانه، ونجاذب ما في التقنية المتواضعة من صوتيات تنقل الموسيقى بطريقة إيقاعية تتناسب مع ما كتبه المتعلم، أيضاً لا ننسى في المسرح المدرسي استثمار إبداعات المعلم والمتعلم في الشعر لتتحول كلماتهم ودواوينهم الشعرية لمعزوفات إنشاديّة ملحنة، فتثير الموسيقى في نفوس الجيل الذوق الجمالي ويتنافسون لمسابقة المسرح الغنائي عبر فعاليات ثقافية متنوعة لا تقتصر على أسوار المدرسة، هنا تستديم الرحلة في تعزيز ثقة الطفل وصقل مهاراته وانطلاقة إبداعه نحو الفنون الأدائية مسرحاً وغناء، فتلوح تلك المسارح الفقيرة لتكشف عن ماهية الإنسان ودوره في الإحساس لخلق لغة تغيير موضوعية ونفسية تتزامن مع الأحداث وتدفعه لمواصلة رحلة الشغف للتحسين والتطوير والرقي بنهضة ثقافة الوطن، أوجزها أمير البيان والفن (خالد الفيصل) بقوله: «النوايا الحسنة وحدها ليس لها قوة الفعل، والعمل الجاد لابد أن تقوده كتيبة المثقفين».