عبدالله العولقي
بعد وفاة حافظ إبراهيم وأحمد شوقي في عام 1932م ، ألف طه حسين كتاباً بعنوان ( حافظ وشوقي )، حاول الناقد الكبير أن يرصد ملاحظاته وآراءه النقدية حول التجربة الشعرية لأمير الشعراء وشاعر النيل، لم يختلف الدكتور طه حسين في نقده لمدرسة الإحياء ولشوقي تحديداً عن رؤية صديقه اللدود عباس محمود العقاد، فكلاهما قد تأثر بالتجارب الشعرية في أوروبا، فطه حسين كان معجباً بالأدب الفرنسي بشقيه الشعري والنقدي، وقد حاول في كتاباته النقدية أن ينقل تجربة الناقد الفرنسي سانت بيف إلى الأدب العربي، وقد أحدثت هذه التجربة نقلة نوعية تجاه مفهوم النقد الأدبي في الثقافة العربية بعد أن كان النقد أسيراً للنظرة التقليدية التي ظلت مهيمنة على مفهوم النقد الأدبي قروناً عديدة، كانت هذه النظرة التقليدية تنبثق عن محورين متلازمين، أحدهما الذوق الذاتي، بحيث يطرح الناقد رأيه الشخصي حول القصيدة الشعرية بناءً على الأثر الجمالي الذي أحدثه النص الأدبي في نفسه، وهذه النظرة تعتبر تاريخية ومتلازمة زمنياً مع ظهور وبداية الشعر الإنساني نفسه، أما المحور الآخر فكان منهجياً نوعاً ما، وقد ظهر في الزمن العباسي بعد حركة الترجمة التي شهدتها الحواضر الإسلامية للآثار الثقافية للإغريق القدماء، وكان منها بالطبع كتابات النقد الأدبي التي تعود للفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، ونستطيع القول إن النقد الأدبي منذ زمن الخليفة المأمون إلى كتابات طه حسين هو عبارة عن مزيج بين المدرستين السابقتين، مدرسة الانطباع الذاتي وقواعد أرسطو النقدية، ولم تثمر الحركة النقدية عن تجاوز لهذا التيار سوى بعض الآراء التي طرحها بعض النقاد مثل عبد القاهر الجرجاني ولكنها لم تجد لها صدى ثقافياً شجاعاً يحولها إلى مدرسة نقدية قائمة بحد ذاتها، وقد بقي الحال كذلك حتى تجربة طه حسين النقدية الرائدة والتي لم تكن منبثقة من تجربة شخصية مبتكرة، بل كانت ترجمة واقعية لقواعد وقوانين الناقد الفرنسي سانت بيف، لكن الأثر الذي أحدثته هذه النقلة كان كبيراً على حركة الأدب العربي، ولعل غريمه عباس محمود العقاد قد أعجب هو الآخر - رغم افتتانه بالمدرسة الإنجليزية - بهذه التجربة الرائدة والتي يتضح أثرها جلياً في كتابه ونقده للشاعر العباسي ابن الرومي.
نعود إلى نظرة طه حسين لشعر شوقي والتي لا تختلف كثيراً - كما أسلفنا - عن نظرة عباس العقاد، فكان ينظر إلى غياب الشخصية في شعر شوقي، يقول عباس العقاد عن هذه الرؤية: إن شعر أحمد شوقي هو شعر القشور والطلاء لأنه شعر صنعة وليس شعوراً بالإحساس الداخلي للشاعر، فشعر شوقي لا يعكس للمتلقي من وجهة نظر العقاد أي سمات أو خصائص نستطيع من خلالها أن نقول إن هذا نفس الشاعر، ونلاحظ من طريقة هجوم العقاد على شوقي هو الكراهية وتصفية حسابات شخصية بينهما، فعلى الرغم من ثقافة العقاد الهائلة واتزانه النقدي في إصدار الأحكام إلا أن الأمر يختلف مع شوقي، فهناك لهجة عنيفة تخفي وراءها نوعاً من الكراهية إن صح التعبير، وهذا الأمر لا نجده لدى الآخر طه حسين، فعلى الرغم من تشابه رؤية الناقدين تجاه شوقي إلا أنك تجد لغة طه حسين تتباين في لهجتها مع نقد شوقي، فلهجة طه حسين تتسم بالهدوء والروية وعدم الاندفاع ولهذا بقيت أواصر الصداقة الشخصية والاحترام المتبادل بين الشاعر والناقد كما يقول الدكتور جابر عصفور، على عكس حالة العقاد مع شوقي، والتي يقال إن العقاد في آخر زمنه قد اعترف أنه قد أسرف في الهجوم والاندفاع على أمير الشعراء وإن لم يتراجع عن رأيه النقدي حول تجربة أمير الشعراء.
يقول العقاد : عند أحمد شوقي ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا، وهبط شعر الشخصية إلى حيث لا تتبين لمحة من الملامح، ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان بين سائر الناس، وليس هذا بشعر النفس الممتازة ولا بشعر النفس الخاصة إن أردنا أن نضيق معنى الامتياز، وليس هو من أجل ذلك بالشعر الذي هو رسالة حياة، ونموذج من نماذج الطبيعة، وإنما ذاك ضرب من المصنوعات، غلا أو رخص على هذا التسويم، ويقول أيضاً : لم يكن لشوقي شعر يدل على مزية نفسية أو صفات شخصية لا يجاري فيها الآخرين أو لا تتكرر في النسخ الآدمية الأخرى تكرار المنقولات والمحكيات والمصنوعات، وهذا نقص ظهر في أبواب شعره كلها فلا فرق بين حديثه وقديمه ولا بين الموضوعات العامة منه والخاصة، فمثل هذه الأقوال وإن كان فيها قليل من الصواب فإن الخطل والافتراء يعمها إذا كنا نتحدث عن شاعر بقامة أمير الشعراء، وحتى نفهم هذا النقد علينا أن نفهم شخصية العقاد أولاً، فهو الكاتب الجبار كما أطلق عليه الزعيم المصري سعد باشا زغلول، وهو المفكر العملاق كما أطلق عليه معاصروه، فلا شك أنه قامة فكرية ثقافية من العيار الثقيل، يستطيع بمهاراته الفكرية والعقلية أن يقنع القارئ أو المتلقي له بما يراه، قوته تنبع من قدراته الذاتية في الإقناع وتقديم الحجة والبرهان، يقول في إحدى مقالاته عن طفولته الأولى وذكرياته مع مادة الإنشاء أثناء دراسته في المرحلة الابتدائية، إنه كان يختار الجانب الأضعف في المقارنة ويحاول أن يقلب الباطل إلى حق، فإذا خير المعلم تلاميذه في الكتابة بين موضوع الحرب والسلام، كان الطلبة يختارون موضوع السلام، أما العقاد فكان يختار موضوع الحرب ويحاول من خلال كتابته أن يفضل الحرب على السلام بالحجج الدامغة من وجهة نظره، هذه الحادثة القديمة تفسر لنا كثيراً من شخصية العقاد، فبعد أن اعتلى أحمد شوقي سلم المجد في الشعر العربي، وبدأت الصحف العربية في مصر والعراق والشام حينها تتحدث عن أمارة الشعر العربي، وعن ظاهرة شوقي الشعرية التي لا تجاريها أي موهبة أخرى في ذلك الزمان، لم يرق ذلك للعقاد، فحاول من خلال شخصيته العنيدة أن يستنبط مواطن الضعف في شعر شوقي، وقد ساعده في تلك الرؤية ثقافته الموسوعية واطلاعه على الآداب الأوروبية، فكانت النتيجة هي تلك الرؤية النقدية المتهورة في واقع الحال تجاه قامة كبيرة في الشعر العربي مثل أحمد شوقي.
نعود إلى نقد الدكتور طه حسين لشعر شوقي، يقول الناقد الدكتور جابر عصفور عن هذه الحالة: ومن اليسير أن نلاحظ في حديث طه حسين عن كسل مدرسة شوقي وحافظ إبراهيم - يقصد مدرسة الإحياء عموماً - نوعاً من السخرية المبطنة التي ترجع إلى الاقتصار على الثقافة الشعرية القديمة، وإذا كان طه حسين يعيب على أمثال هؤلاء الشعراء أنهم لم يطلعوا على الفلسفة، ويخوضوا في غمار الفكر والحكمة، فإن ذلك يرجع إلى أمرين : أولهما إعجاب طه حسين العام بالشاعر المفكر الذي يشعر بما يفكر، ويفكر فيما يشعر به، وثانيهما إعجابه الخاص بأبي العلاء المعري شاعره المفضل والأثير، والذي يعتبره صنوه في الحياة باعتبار أنه مع أبي العلاء يشتركان في العمى والفكر، وقد رد طه حسين في أكثر من موضع حول عبقرية المعري وريادته الشعرية إلى قدرته الفائقة على التفكير الشعري أو الفكر الشعوري كما كان يقول، وهي مقدرة لم يرها طه حسين في أحمد شوقي الذي كان ينتظر منه ذلك على وجه الخصوص، والمؤكد أنه كان يتوقع هذه السمة تحديداً من أمير الشعراء، ولا يتوقعها أبداً من صنوه شاعر النيل، وذلك لثقافة أحمد شوقي الغربية، واطلاعه الباكر على الآداب الفرنسية تحديداً، بالإضافة إلى سمو مكانته الاجتماعية التي أتاحت له من السفر إلى أوروبا والتجارب الثقافية بالاحتكاك مع الثقافات الأجنبية ما لم تتحه المكانة الاجتماعية المتواضعة لحافظ إبراهيم، ولهذا لاحظ الناقد الدكتور جابر عصفور عند رصده لهذه الحالة تركز النقد في كتاب حافظ وشوقي على أحمد شوقي على وجه الخصوص، يبدو ذلك في اعتراض طه حسين على المقدمة التي كتبها صديقه الدكتور محمد حسين هيكل للطبعة الثانية من ( ديوان الشوقيات )، حيث يذهب إلى أن أخطر عيوب شوقي الشعرية هي أن شعره لا يبين عن شخصيته ولا يشف عن وجدانه ،، وهذه النظرة كما أسلفنا هي نفس رؤية عباس العقاد أيضاً، كما يبدو الاتجاه نفسه في حديث طه حسين عن المثل الأعلى وعن الذوق الأدبي، وفي نقده التطبيقي التفصيلي لقصيدة شوقي التي يقول مطلعها:
قفي يا أخت يوشع خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا
وفي الموازنة الأخيرة التي أقامها طه حسين بين حافظ وشوقي وجعلها ختاما لكتابه الشهير، وإذا كانت تقليدية شوقي الإحيائية هي مصدر الضعف الشعري، ومن ثم غلبة النظم لا الشعر في ديوان الشوقيات، فإن هذه العلة تتأكد بنقيضها الذي يكشف عن المثل الأعلى للشعر الجيد، ويعقد طه حسين المشابهة الشهيرة، في هذا المجال بين الشعر والمرآة، وهي مقارنة ذكية تعكس ثقافة طه حسين، وقدرته على تبيان رؤيته النقدية بكل جلاء ووضوح أمام القارئ ، فالشعر الجيد عنده، يمتاز قبل كل شيء بأنه مرآة لما في نفس الشاعر من عاطفة، مرآة تمثل هذه العاطفة تمثيلاً فطرياً بريئاً من التكلف والمحاولة، فإذا خلت نفس الشاعر من عاطفة صادقة، أو عجزت هذه العاطفة عن أن تنطق لسان الشاعر بما يمثلها من إحساس فني فليس هناك شعر، وإنما هناك نظم وصنعة لا غناء فيه.
وهنا نلاحظ رقي النقد - اللفظي والمعنوي - لدى طه حسين عند حديثه عن شوقي، فهو نقد يتسم بروح التسامح وبعيداً عن ألفاظ التجريح والقسوة والجدال، وإن كان جوهر ما يذكره طه حسين تجاه نقده لشعر شوقي لا يختلف كثيراً عن رؤية عباس العقاد نفسها.