د. جاسر الحربش
تتفاوت الدول العربية والإقليمية كثيراً في مصداقية وقوفها الإنساني والوطني مع الشعب الفلسطيني لاسترجاع كامل حقوقه في دولته المستقلة كاملة السيادة مثل أي شعب عريق ضارب في القدم التاريخي والحضاري، ثم تسبب الاستعمار الكولونيالي في نكباته المتكررة. إن الفرق واضح لمن يتوخى الصدق والأمانة المتجردة من الأهواء والانتماءات الغائية بين تلك الدولة الأصدق والأكرم دعماً بالأموال والإغاثات المادية ووضوح المواقف في المؤتمرات والمحافل الدولية. رغم أن هذه الدولة معروفة للجميع وللفلسطينيين قبل غيرهم بالأفعال وليس بالشعارات والمتاجرات السياسية فهي لا تحتاج إلى تنويه إلا أنني سأذكرها بالاسم لأنها بالفعل تستحق، إنها المملكة العربية السعودية.
إن التعميم في هذا المقال بعنوانه الجامع للعرب يعني التعميم على المسؤولية الموحدة الجامعة تجاه المأساة في غزة دون الدخول في التفاصيل عن معطيات التفاوت في المواقف الموثقة بالأرقام والتواريخ ويعرفها الإخوة الفلسطينيون الصادقون قبل غيرهم.
بداية سوف أطرح بعض الحقائق لأجعلها معابر باتجاه لب المقال:
المعبر الأول: أليست حقيقة وباعتراف الوزراء في الحكومة الإسرائيلية والحاخامات أن غزة تتعرض للتدمير المنهجي من عدو يحمل مواصفات مشروع ديني إقصائي يلقن أطفاله وجنوده في المدارس النظامية والعسكرية فريضة التعبد بإبادة المخالف دون اعتبار للعمر والجنس والحالة الاجتماعية؟.
المعبر الثاني: أليست حقيقة أن هذا العدو وبلسان حكومته المنتخبة يعتبر نجاحه في غزة مقدمة للتطبيق على كامل أرض فلسطين التاريخية.
المعبر الثالث: أليست حقيقة أن فلسطين بلاد عربية محتلة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية الماثلة للعيان مقابل الادعاء بمعبد الهيكل التوراتي الذي لم يعثر أركيولوجياً على أي دليل مادي عن وجوده تحت المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى وحرمهم الثالث.
والآن لندخل باستخدام المعابر إلى منطقة المأساة والرعب الذي لم يحدث مثيل له في الذاكرة البشرية.
إن نظرات الرعب من الموت جوعاً في عيون أطفال القدور الفارغة في قطاع غزة يفترض أن توقف اللقمة في حلق كل عربي يشاهد المأساة بالصوت والصورة. شواهد الموت جوعاً ماثلة على مدار الساعة فيما تنقله الفضائيات العالمية عن الرضع وصغار الأطفال، وقد غارت أوجانهم وانطفأت عيونهم والتصقت جلودهم بعظامهم. تدافع الأحياء من أطفال غزة بقدورهم وطياسهم الفارغة من أجل لبخة أكل إغاثية يعتصر قلب وروح كل صاحب ضمير حي دون أي علاقة انتمائية غير التعاطف الإنساني الغريزي مع المقهور الذي تمنع قوة غاشمة إغاثته على كل القوى القادرة بما في ذلك الأقربون. بمتابعة الرصد الإعلامي المعولم والاستنتاج المنطقي أصبحت أغلب شعوب الأرض تتابع أخبار الكارثة وتتساءل أين إخوتهم فيما يسمى جامعة الدول العربية ولماذا لا يتبلور موقف عربي فعال يوظف بعض طاقات العرب الكافية لإنقاذ أهل غزة وأطفالها من همجية التقتيل والتدمير والتجويع والحصار الذي لم تتحمل منذ القدم مسؤوليته التاريخية والانتمائية أمة من الأمم؟.
إن العالم كله يعرف الآن ولكن لا يقتنع بكفاية الجهود الدبلوماسية أمام وخلف الكواليس وكميات المساعدات الغذائية والطبية العربية الهائلة التي تصطف كغيرها مع طوابير الإغاثة العالمية الطويلة أمام المعابر الإسرائيلية في انتظار تكرم السفاك عليها بالدخول بطريقة التقطير المذل الذي لا يسد رمقاً ولا ينقذ طفلاً من الهلاك. غالباً ما تختلط قطرات الإغاثة ودماء وأشلاء الجوعى بالقصف الإسرائيلي العنيف من الجو والبر والبحر. العالم بالتأكيد غير مقتنع بالفعاليات العربية الحالية، والتساؤلات كثيرة ومتشعبة وأهمها للمجتمعات العربية بالخصوص هو: هل يتناسب الموقف العربي الحالي مع المسؤوليات التاريخية الشديدة الوطأة على ضمير العالم بكامله؟. أعتقد كاستقراء شخصي أن تفرعات التساؤل أعلاه تدور حول محور واحد من قبيل: هل غياب موقف عربي متضامن وفعال حتى الآن يعود فقط لصعوبة التنسيق الأمني بين الدول القطرية العربية. السؤال مهم للمرحلة لأن المواطن العربي يسمع ويقرأ منذ عقود عن الدفاع العربي المشترك كأحد بنود الجامعة العربية الموقع عليها عام 1950م، ويختزن في ذاكرته فعالية الدفاع العربي المشترك عام 1973م وقبل ذلك أثناء العدوان الثلاثي على مصر وأثناء حرب التحرير الجزائرية.
وفيما يتعلق بالسياسات الإقليمية والتوازنات الدولية هل توجد محاذير سياسية إزاء قدرات (ربما متخيلة) للصهيونية العالمية لتحشيد القوى الغربية الأطلسية ضد أي مشروع دفاعي عربي مشترك، أم أنها التوازنات الاستراتيجية للقوى الكبرى الثلاث هي التي لن تسمح بتكوين قوة رابعة اسمها الدفاع العربي المشترك؟.
وأخيراً السؤال العربي الأمني الأهم، لماذا يترك الظرف التاريخي الحرج كفرصة مفتوحة لدول إقليمية غيرعربية لكي تستثمر في المتاجرة وجمع النقاط بالمأساة الفلسطينية لتقويض الأمن العربي بكامله في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد.
وفي الختام إن المهمات التاريخية العظمى التي تمس أمة متشاركة في كل مقوماتها الحضارية والأمنية ليست من فروض الكفايات القطرية وإنما من موجبات العمل الجمعي مثلما هو موقع عليه في معاهدة الدفاع العربي المشترك، ولن يضيع حق وراءه مطالب شجاع حكيم.