د.مدحت العزب
الإسلام خاتم الرسالات السماوية، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والقرآن الكريم آخر اتصال بين السماء والأرض، واضعاً دستوراً ومنهجاً ربانياً للبشرية حتى قيام الساعة. وقد أقر الإسلام - وهو دين الله الحق - الاختلاف كسنة من سنن الله في الكون {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 93). وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118).
وبذلك أقر الإسلام حرية الاعتقاد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...} (البقرة: 256).
والإسلام كرم النفس الإنسانية بصفة عامة، تكريماً على الإطلاق، ليس على أساس اللون أو الجنس أو العرق أو العقيدة مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70).
وهذا تكريم عام للجنس البشري، مسلمين وغير مسلمين، وفي السنة النبوية الشريفة، أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي حديث «1250» وصحيح مسلم حديث «961» واللفظ له: «عن ابن أبى ليلى أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنه من أهل الأرض - أي جنازة غير مسلم من أهل تلك الأرض - فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي. فقال: «أليست نفساً».
وفي الحديث الشريف أيضاً: «روى أبو بكرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة»رواه أبو داود «2760»وأحمد «20393» والحاكم النيسابوري «2631» وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع « 6456.
ومن هنا اهتم الإسلام في قرآنه الكريم، وسنة نبيه، وتشريعاته بقواعد وأسس التعامل مع الآخر من غير المسلمين المختلفين في العقيدة، وأرست الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع غير المسلمين في السلم والحرب والمعاهدات والتعايش السلمي، والمعاملات المالية، وحقوق غير المسلمين كمواطنين أو مستأمنين، وهي قواعد تقوم على تكريم النفس البشرية، والتسامح والصفح الجميل، والحوار وحرية الاعتقاد، وشروط وأخلاقيات الحرب.
والإسلام يعترف بجميع الأنبياء والمرسلين السابقين ويحفظ مقام النبوة، بل من العقيدة الإسلامية الإيمان والاحترام لجميع الأنبياء، والكتب السماوية قبل التحريف.
سمات وقواعد التعامل الإسلامي مع الآخر:
- الحوار: اتخذ القرآن الكريم منهج الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وسيلة إقناع غير المسلمين في أمور العقيدة أو القضايا المشتركة أو ما يسمى «القواسم المشتركة»، وأسلوب الحوار هو أرقى أسلوب للتعامل عرفته البشرية وسبق به الإسلام ما يدعيه الغرب الآن من أساليب الدبلوماسية والسياسة في الأمور الخلافية بين الدول، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ....} (العنكبوت: 46).
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف التي اتخذ فيها الرسول الكريم أسلوب الحوار والجدال بالحسنى وسيلة للدعوة إلى الإسلام، وإقناع مشركي مكة في بداية الدعوة الإسلامية، فها هو صلى الله عليه وسلم يستمع إلى أحد سادات قريش «عتبة بن ربيعة» وقد جاء يعرض على الرسول المال أو الملك أو العلاج مما دفعه إلى الدعوة إلى الإسلام، ظاناً منه بأنها دعوة لغرض دنيوي وليس رسولاً موحىً إليه، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ عتبة من كلامه أن قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟، قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فاسمع مني: «فتلى عليه الآيات 1-5 من سورة فصلت، ورجع عتبة إلى أصحابه متغير الوجه قائلاً لهم إنه ما سمع مثل هذا القول، وإنه ما هو بالشعر، ولا بالسحر ولا بالكهانة، وخلوا بين محمد ودعوته.
الإسلام ومعاملة الرسل والزعماء
وضع الإسلام ممثلاً في سيرة رسوله الكريم، وفي قواعد شريعته السمحة، قواعد وأخلاقيات التعامل مع غير المسلمين من الرسل أو الرؤساء أو الزعماء، حتى في حال العداء وتجاوزاتهم، وبهذا فقد سبق الإسلام النظام الدولى الحديث فيما يعرف بالبروتوكولات الرسمية في العلاقات الدولية.
- فعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة إلى كسرى الفرس يدعوه فيها إلى الإسلام ،غضب كسرى من هذه الرسالة وشق رسالة الرسول الكريمة، وطلب من «باذان: عامله على اليمن أن يأت له برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل باذان رجلين أحدهما «بابويه» والآخر يدعى «خرخسرة» ومعهما رسالة إلى الرسول يأمره كسرى أن يأتيه ويهدده...!.
دخل الرجلان على رسول الله في المدينة وسلماه رسالة كسرى الغشومة، فما كان من رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم إلا أن قال لهما: أبلغاه أن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهى إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: «إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء».
ثم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم خرخسرة هدية قيمة حزاماً من ذهب وفضة، وانصرف الرسولان آمنين، رغم ما برسالتهما من تهديد وصلف وكفر بدعوة الرسول.
وكانت رسائل الرسول إلى قيصر الروم، أو كسرى فارس، أو نجاشي الحبشة أو مقوقس مصر يدعوهم إلى الإسلام، يبدأها رسول الإسلام بعبارة «من محمد عبد الله أو من محمد رسول الله ..إلى،..» عبارة كلها التواضع والتسامح والثقة في صفته النبوية التي تفوق كل صفة ووصف.
واحترم رسول الإنسانية والرحمة في سيرته العطرة عهوده ومواثيقه مع يهود المدينة بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، ولم يحاربهم إلا بعد نقضهم هم للعهود وخياناتهم المتكررة للمسلمين ومحاولات الإيذاء بمسلمي المدينة.
وبعد أن غنم المسلمون من حصون خيبر اليهود بعد فتحها عدة صحف منها نسخ للتوراة، جاءت اليهود تطلبها، فتشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته، وتم ردها إلى اليهود، وقد جاء ذلك في» المغازي للواقدي ج1، ص681.
** **
- كاتب وطبيب مصري