عبدالرحمن الحبيب
بعد سنوات من العمل النشط، والتدرج في السلم الوظيفي والانشغالات العملية، فجأة في بداية الستين تتقاعد ويتلاشى عالم الأعمال والضجيج والاجتماعات والمهام والأهداف.. فما هي الحالة؟ يحدث أن تقابل أناساً تقاعدوا لكنهم يبحثون عن عمل ولو براتب رمزي لأنهم يشكون من الملل والرتابة في حياتهم والشعور بنقص الهدف.. بينما هناك من يميل إلى التقاعد في أقرب موعد ممكن، والتخلص من الروتين وهموم العمل، والتمتع بالترفيه في المجالات التي يرغب بها من سياحة أو رياضة أو رحلات برية أو الاعتناء بالحديقة أو أي هواية يرغبها بعيداً عن توتر العمل.
التقاعد قد يعني التمتع بالحياة حيث لديك كل الوقت لذلك، لكن الخشية أن يؤدي ذلك إلى الملل أو إلى حياة خالية من المعنى، أو قد يشعرك بالتهميش والشعور بعدم الأهمية.. في أحد استطلاعات الرأي هذا العام، حسب مجلة الإيكونيميست، أظهر ما يقرب من واحد من كل ثلاثة أمريكيين يقولون إنهم قد لا يتقاعدون أبداً؛ كما قال غالبية العمال إنهم لا يستطيعون التخلي عن راتب وظيفة بدوام كامل، خاصة عندما كان التضخم يأكل شيك الضمان الاجتماعي المتواضع بالفعل.
البعض ببساطة لن يتقاعد، وهناك أمثلة عالمية مشهورة.. ديفيد اتينبارا أشهر صانع وثائقيات بيئية وبرامج الطبيعة، مُذيع تليفزيوني بارع بكاريزما مميزة وجذابة في الإلقاء، بالرغم من بلوغه السابعة والتسعين عاماً فلا زال يعمل على أحدث المشاريع البيئية المدهشة مثل «الحياة على كوكبنا» عن الحيوانات والنباتات والاحتباس الحراري. جورجيو أرماني من أشهر مصممي الأزياء في العالم يرفض التخلي عن دوره كرئيس تنفيذي لدار الأزياء الخاصة به عن عمر يناهز الـ 89 عاماً؛ ورغم كونه ثاني أغنى رجل في إيطاليا فذلك لم يضعف إصراره على الاستمرار في العمل.
كلِينت إيستُوود من أشهر الممثلين على المستوى العالمي إضافة لكونه مخرجاً ومؤلفاً موسيقياً للأفلام ومنتجاً سينمائياً أمريكياً حائز على جائزة الأوسكار أربع مرات، اثنتان عن أفضل مخرج واثنتان عن أفضل فيلم، لا يزال يعمل وهو في سن الرابعة والتسعين.. وسبق عندما بلغ الثمانين، أن أجاب رداً على سؤال، ماذا تنتظر من المستقبل؟: «أن أكون قادراً على إنجاز ما بدأته من أعمال لأنني لا أشعر بعد بالاستعداد للتقاعد. فإذا ما أحسست بالعجز عن التعلم أو توسيع آفاقي بطريقة ما، فستكون تلك النهاية. إن الخطر الكبير في مرحلة ما من العمر، فقدان الطموح، والثبات واللجوء إلى الماضي ورفض الحاضر»..
لكن حتى لو تم التقاعد فذلك لا يعني بالضرورة التوقف عن العمل الجاد والاستمرار في المهنة بطريقة ما، خاصة لأولئك الذين مارسوا أعمالاً ذات طابع احترافي محدد كالمحامي أو المحاسب أو المهندس أو الطبيب، فهناك مقترحات من الخبراء لتمضية الوقت دون أن تفوت طبيعة مهنتك أو تخصصك أو تشعر بأن حياتك خالية من المعنى.. كالمساعدة في الأعمال غير الربحية مثل الجمعيات الخيرية أو التطوعية، وكالقيام بمهام عرضية في التدريس أو المساعدة في أعمال احترافية، أو الانضمام إلى الأندية الأدبية أو الرياضية كل حسب تخصصه وميوله. ومن البديهي أن ينصح الخبراء بممارسة الهوايات والنشاطات الاجتماعية والرياضية والترفيهية من سينما ومسارح ومعارض فنية وتجارية..الخ؛ لكن بالنسبة للأشخاص المندفعين للعمل للغاية الذين يشعرون بالنشاط والحيوية والإثارة في وظائفهم، فقد يشعرون مع التقاعد بعدم الجدوى وحتى بالحرج قليلاً.
نسبة المتقاعدين تزداد سنة إثر أخرى بسبب زيادة متوسط عمر الفرد على المستوى العالمي نتيجة تحسن الخدمات الصحية والوعي الصحي، فحسب تقارير الأمم المتحدة السكانية، تزداد نسبة ممن تبلغ أعمارهم الـ 65 عاماً أو أكثر بمعدل أسرع من معدل زيادة نسبة السكان الأصغر عمراً؛ وهي تصل حالياً حوالي 10 في المئة من إجمالي عدد سكان العالم، ويتوقع أن تصل إلى 16 في المئة بحلول عام 2050، وهو ما سيعني أن عدد الأفراد الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر سيصبح ضعف عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمسة أعوام، ويكاد يساوي عدد الأطفال تحت سن الـ12 عاماً.
فلم يعد المتقاعدون يشكلون نسبة قليلة، فأصبح هناك العديد من المواقع والمكاتب لتوفير الاستشارات وكيفية البدء في هذه المرحلة الجديدة من العمر، مع خيارات استثمارية متنوعة ومخصصة للمتقاعدين. وصار المزيد ممن هم فوق الستين يعملون لسنوات إضافية. وفي كل الأحوال فالمسألة تعود للقرار الشخصي، كما أن الحالة النفسية لأغلب البشر لا تخلو من التفاوت بين الملل والإثارة، فالبعض يكدره العمل وفي نفس الوقت يصيبه الملل من الراحة، والموازنة بينهما قد لا تكون قراراً سهلاً..
كلما يُطلب من أرماني أن يتقاعد ويستمتع بثمار عمله، يجيب «لا على الإطلاق». وبدلاً من ذلك، فإنه يشعر بالنشاط والحيوية بشكل واضح من خلال مشاركته في تسيير العمل يوماً بعد يوم، والتوقيع على كل تصميم ووثيقة وشكل. لكن بالمقابل، يقول الكاتب والت موسبرغ: «أرى التقاعد مجرد تجديد آخر من هذه الابتكارات، وفرصة أخرى للقيام بأشياء جديدة وأن أكون نسخة جديدة من نفسي.» أياً كان الخيار، فالمهم أن يكون مناسباً لك..