م. بدر بن ناصر الحمدان
لطالما جذبتني تلك المشاهد التي يظهر فيها رجل ريفي في بداية العقد السادس من عمره، يعيش في داخل كوخ خشبي بالقرب من الجبل وعلى أطراف الغابة، لا يتحدث كثيراً، ويرتدي الفراء وقبعة مكسيكية، على كتفه بندقية، يلتقي بفتاة ريفية جميلة عند جدول الماء مع إشراقة كل يوم، ويتبادل معها لغة صامتة، لا يفهمها سواهما، يقضي جلّ نهاره في قطع الأخشاب، وتجفيف الطعام، والصيد، وتحضير الجبن، ورعي الماشية بالخيول، ومع حلول المساء يشعل مدفئته، ويتناول قطعاً من لحم الطيور، وشيئاً من حساء الأعشاب، ثم يمضي ما تبقى من يومه في القراءة وتدوين ما تسعفه ذاكرته من رحلة الحياة التي قضاها في أروقة تلك المدن الصاخبة ردحاً من الزمن، برفقة مشروب ساخن، وغليون تبغ، وسط طبيعة صامتة لا يُسمع فيها سوى حفيف أوراق الأشجار، وصوت الحطب داخل نار المدفئة، يطفئ قنديل الزيت، ثم يخلد بعدها إلى النوم استعداداً ليوم آخر.
هل فكرت يوماً أين ستقضي الأيام الأخيرة من حياتك؟ أم أنك مستمر على ما أنت عليه وسينتهي بك المطاف في نهاية خندق حياة تقليدية رتيبة ومليئة بالواجبات والمواعظ ووصاية الآخرين ومعاملة مغلفة بكثير من الشفقة، مثلك مثل ملايين البشر الذين رحلوا دماغياً قبل أوانهم، أما راودك شعور بالذنب تجاه نمط حياتك الماضية وأن عليك فعل شيء مختلف، أن تُحدث تغييراً في الجزء الأخير من رحلة العمر، أجزم أنك نادم على كثير من الأوقات التي ضاعت دون أن تكتشف من أنت، ولما أهدرت لحظات لا تعوَّض مع نفسك ومن أجلها، بل وأثق من رغبتك الجامحة في إطلاق ذلك الثائر المدفون بداخلك سنوات طويلة، كنت فيها عاجزاً تماماً، ولم تمتلك الشجاعة الكافية للذهاب أبعد مما أنت عليه.
قضاء ما تبقى لك من أيام أخيرة، جزء مثير جداً، ويحتاج إلى تخطيط مسبق وأفكار مبتكرة وغير مسبوقة، شيء لم يحدث من قبل، كما أن تُحدد مثلاً تاريخاً معيناً بالسنة واليوم والساعة تغادر فيه بعد منتصف الليل، وبشكل مفاجئ إلى مكان مجهول دون أن يشعر بك أحد، بعد أن تترك رسالة وداع لأقرب الناس إليك تشرح لهم مبررات هذا الرحيل وأنك تكتفي بهذا الحد معهم ولا تنوي العودة، لتبدأ حياة أكثر إثارة، تعوّض بها ما قد فات، بشخصية أخرى، وأناس آخرين، وأسلوب عيش آخر، بعيداً عن ما كنت عليه، تذكر أن سيناريو النهايات دائماً ما يحتاج إلى حدث مختلف ليبقى في الذاكرة.
أخيراً، إذا ما قرَّرت المغادرة، إياك أن تصطحب معك أحداً، أياً كان، فقد قضيت معهم وقتاً طويلاً وكافياً، ولا تنس أن تتعلَّم الصيد وقطع الأخشاب وتجفيف الطعام وتحضير حساء رعاة البقر، وبعضاً من الأشعار الفرنسية، فقد تحتاج إليها في وجهتك الأخيرة. لا تخبر أحداً بمكان الكوخ.. مهما حدث.