د. شروق إسماعيل الشريف
إن أعظم القرارات وأخطرها في مسيرة الإنسان على طول حياته هو قرار المرء اختيار شريكه، وخطورة هذا القرار إنما تنبع من إحساس المرء بأن حياته المستقبلية متوقفة على صحة اختياره من عدمها؛ ولهذا نراه في مواقف حياتية متنوعة لا يهاب المخاطر والصعاب في مواضع البحث عن العمل ومواطن السعي من أجل الحصول على الثروة وتحقيق المكانة الاجتماعية المرموقة، ولكنه في موقف البحث عن شريك يكمل معه حياته القادمة فإنه يفكر قبل المبادرة ألف مرة، ويعمل لهذا الأمر ألف حساب، وتتقاذفه خلال ذلك عشرات الأفكار والهواجس.
ويرى علماء النفس والاجتماع أن نجاح العلاقات الزوجية مرتهن بمدى قدرة الشريكين على التعامل الإيجابي مع متغيرات الحياة حلوها ومرها، ودرجة نجاحهما في تفهم طبيعة الطرف الآخر، واشتراكهما معًا في تحقيق الحد المطلوب من التناغم والانسجام لجعل حياتهما الزوجية متوافقة ومستمرة، وبرغم توفر النوايا الصادقة لدى كثيرٍ من الأزواج في تحقيق حياة زوجية منسجمة ومستقرة، إلا أنه وبمرور الوقت وأمام تحديات الحياة المختلفة نجد الكثير أيضًا منهم سرعان ما يشكو حاله مع شريكه، ويبدي تضجرًا وألمًا، وينتهي الحال بهما إلى شراكة باردة تحت سقفٍ واحد، ولكنها كحياة لا حرارة فيها ولا شعور، أو إلى دعاوى الخلع والطلاق في ساحات القضاء، فما الذي حصل بينهما وهما المنتويان من البداية على بناء مشروع أسرة صالحة في مجتمع قويم؟!
لاشك أن العلاقة العاطفية هي مفتاح السر في هذا النمط من العلاقات الزوجية الفاترة؛ فعندما يصيبها الضعف ويعتريها الجمود لتمركز كل منهما حول ذاته وانعدام الاهتمام بالطرف الآخر تتحول حينئذٍ الرابطة الزوجية إلى مجرد رابطة شكلية يحكمها تبادل المنافع والانقياد للتقاليد المجتمعية، وقد تتفاقم الحالة بين الشريكين فيصلان إما إلى انفصال عاطفي أو إلى فراق كلي.
والانفصال العاطفي طلاق من نوعٍ خاص، طلاق سري غير معلن يعيش فيه الزوجان تحت سقفٍ واحد أو في محيطين منفصلين، لكن السمة الغالبة عليه أن طرفيه يعيشان في انعزال عاطفي وعلاقة زوجية تنطفئ فيها العاطفة وتخفت بنسبٍ متقدمة، ويشتركان في حياة زوجية باردة تفتقر إلى الحب المتبادل والرضا الكامل والاهتمام المشترك، وبرغم ذلك الانطفاء العاطفي إلا أن الحياة الزوجية لا تزال تحتفظ بمظاهرها القانونية والاجتماعية؛ لعوامل ترتبط بالتقاليد أو المادة أو الأبناء؛ ولذلك قد يسميه البعض بالطلاق النفسي، أو بحياة (البيت - الفندق)، ويعد في غالبية حالاته مقدمة للطلاق الفعلي.
ومن نافلة القول إن الانفصال العاطفي لا يقل خطورة في تأثيراته السلبية على حياة الزوجين وأبنائهما عن الطلاق؛ إذ إنه من المؤسف ألا يستطيع الشريكان التصرف على نحو هادئ وطبيعي في ظل حياة زوجية مضطربة، يتجاهل فيها كلٌّ منهما الآخر، كما لو أنه غير موجود، وطبيعي أن يلحظ الأبناء بوضوح هذا الاضطراب الذي يخيم على علاقة الأبوين، بحكم وجودهم معهما في منزلٍ واحد، الأمر الذي يسفر عن واقعٍ أليم هو إصابة هؤلاء الأبناء باضطرابات نفسية واجتماعية تتباين آثارها عليهم واستجاباتهم لها وفقًا لطبائعهم وقدراتهم على التكيف، ولا يمكن أن نغفل ما توصلت إليه الدراسات والبحوث في مجال علم الاجتماع المختصة بشؤون الأسرة والعلاقات الزوجية من وجود علاقة طردية بين الصحة النفسية للأبناء والمناخ الأسري العام.
وعلم الاجتماع هو أحد حقول العلم الذي يختص بدراسة السلوك الاجتماعي للإنسان داخل المجتمع، سواء كان يعيش بمفرده، أو داخل إطار جماعة بعينها، وذلك من خلال دراسة وفهم وتحليل السلوك الاجتماعي، وكذلك ملاحظة وتسجيل طرق اتصال وتفاعلات الأفراد ببعضهم وبالعالم الخارجي بهدف وضع تفسيرات منطقية لنتائجه.
ومن نظريات علم الاجتماع التي تقدم تفسيرًا لما يحصل في جنبات البيوت التي تنضوي على مثل تلك العلاقات الزوجية المتكسرة، وتسلط الضوء على تلك الأنماط الاجتماعية من الحيوات الأسرية التي يدب فيها الخلاف ويعصف بها ريح الشقاق نظرية التفاعلية الرمزية، وهي نظرية يتمركز جوهرها في أن الإنسان يعيش داخل عالم مكتظ بالرموز والمعاني يتأثر بها ويستعملها باستمرار في حياته اليومية للتعبير عن رغباته وحاجاته الاجتماعية، كلبس الخاتم في إصبع اليد دلالة على الزواج، وتحريك الرأس دلالةً على الموافقة أو الرفض، وقد تبلورت ملامح هذه النظرية على يد عالم الاجتماع الأمريكي «جورج هربرت ميد» في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين في أعقاب تزايد مشكلات الهجرة والطلاق والجريمة في المجتمع الأمريكي، وبرغم أن تلميذه «هربرت بلومر» هو أول من أطلق مصطلح التفاعلية الرمزية إلا أن «ميد» هو أول من رسم ملامحها وصاغ أفكارها الرئيسة في كتابه الذي أسماه «العقل والذات والمجتمع».
يرى أصحاب نظرية التفاعلية الرمزية أن الحياة الاجتماعية التي يعيشها الأفراد داخل مجتمعاتهم ما هي إلا شبكة معقدة من نسيج التفاعلات التي تتم فيما بينهم من ناحية وفي علاقاتهم بالمجتمع الخارجي من ناحية أخرى، وأن الظواهر الاجتماعية التي تتعلق بحياة الأفراد والمجتمعات لا يمكن فهمها أو تفسيرها إلا في ضوء فهم وتحليل التفاعلات التي تحصل بين أفراد المجتمع.
وتستند التفاعلية الرمزية إلى حقيقة مفادها أن المرء خلال عمليات تفاعله مع الآخرين يصير مُقَيِّمًا للآخرين، بحيث يمنح كلَّ فرد تفاعَل معه في السابق رمزًا ذا مدلولٍ خاص -إيجابيًا أو سلبيًا- يتحدد بناءً عليه في المستقبل طبيعة تعامله معه أو نوع استجابته نحوه، وهذا يعني أن جفاء العلاقة وانقطاعها أو حيويتها واستمرارها مرتهن بطبيعة الرمز كونه سلبيًا أو إيجابيًا.
لقد أوجز هربرت بلومر فرضيات النظرية في أن الأفراد يتصرفون في حياتهم حيال المواقف التي يتضمنها عالمهم على أساس ما تعنيه تلك الموضوعات بالنسبة إليهم، وهذه المعاني نتاج تفاعلاتهم مع الآخرين، وهي معانٍ تُحور وتُؤل من قبل الفرد في سلوكه الاجتماعي مع الآخرين، كما أن النظرية ترتكز على مجموعة من المبادئ والمفاهيم الأساسية، هي: الرموز، والمعاني، والتوقعات، والسلوك، والتفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، كما أن السلوك من وجهة نظر التفاعليين الرمزيين يتسم بالمرونة والتغير باستمرار، فطرق تصرفات الفرد تتغير باستمرار طبقًا لتوقعاته حيال تصرفات الآخرين وردَّات أفعالهم تجاه سلوكه.
وتنظر التفاعلية الرمزية إلى الأسرة باعتبارها وحدة من الشخصيات المتفاعلة، ويركز أصحابها على دراسة وتحليل العلاقات الأسرية بين الزوج والزوجة من ناحية وبين الزوجين وأبنائهما من ناحية أخرى؛ وصولًا إلى تفسير أعمق للأسرة بوجه عام، وبناء على ذلك فإن قدرة الزوجين على التكيف مع أحداث الحياة المتغيرة يؤهلهما للعب دورهما كزوجين وأبوين ناجحين، وإن فشلهما - أحدهما أو كلاهما- يفضي إلى تزعزع استقرار المناخ الأسري، وتصدع الرابطة الزوجية بين الزوجين.
والأسرة عند التفاعليين الرمزيين ليست نموذجًا مثاليًا واحدًا في كافة المجتمعات البشرية؛ إذ لا توجد أسرتان تتطابقان تمام التطابق، فكل أسرة تحمل من الخصائص ما يميزها عن غيرها، ولها مجموعة من الرموز والقيم التي تتفاعل بها وتورثها لأبنائها صغارًا، وتتشكل على أساسها الأدوار المستقبلية لهؤلاء الصغار، وبمرور الوقت يحاول كل فرد استيعاب طبيعة الدور المتوقع منه أولًا، ثم يسعى لاحقًا وبتأثيرٍ من تفاعله اليومي مع الآخرين إلى إدخال بعض التعديلات على دوره الاجتماعي؛ وفقًا للرموز التي تعلمها صغيرًا، وتماشيًا مع الظروف المستجدة التي تعرض له؛ لذلك فليست هناك علاقة زوجية تشبه الأخرى.
ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن عالم الرموز المحيط بالفرد تختلف معانيه ومدلولاته باختلاف اللغة والعرق والمكانة الاجتماعية، وفي ضوء ذلك يهتم التفاعليون الرمزيون بدراسة العالم الرمزي لكلا الشريكين، ويفترضون أنه كلما تباين الزوجان في العالم الرمزي الخاص بكل منهما كان ذلك مدعاة لأن يعتري التفاعل بينهما ضروب من الخلاف والشقاق، الأمر الذي يستوجب في رأيهم تحليل الثقافة الفرعية لدى الشريكين للوصول إلى فهم أعمق لأسباب الانفصال العاطفي أو الخلافات الأسرية بوجه عام.
وعلى ضوء النظرية فالزوجان يحمل كل منهما عالمًا رمزيًا اكتسبه من أسرته ومن تفاعله مع الآخرين، وفور اشتراكهما في حياة واحدة فإنهما يسعيان إلى بناء أسرة من خلال ما يؤديانه من أدوار اجتماعية جديدة (زوج/ زوجة، أب/ أم)، كما يسعى كل منهما إلى التعرف على سمات وخصائص الآخر من خلال العلاقة التفاعلية التي تتم بينهما، وقد يستغرق في سبيل ذلك وقتًا يتراوح من أسبوعٍ حتى سنة، ثم يشرع كل فرد منهما في بناء صورة ذهنية أو رمزية عن شريكه استنادًا على مواقف التفاعل السابقة بينهما، فيصير كل منهما بالنسبة للآخر رمزًا، وعندما يصل هذا التقييم الرمزي الذي كونه كلٌّ منهما إلى الآخر فإن كل طرف منهما يقيم نفسه بذات التقييم أو الرمز الذي قيمه به شريكه، فإذا كان الرمز إيجابيًا دلّ ذلك على توفر درجات التفاهم والتناغم بين الشريكين، وإذا كان الرمز سلبيًا فإن التفاعل بين الزوجين غالبًا ما يتعثر أو ينقطع.
وكما أولت التفاعلية الرمزية اهتمامها للتقييم الرمزي الذي يكونه كل فرد تجاه الآخر، فقد ركزت أيضًا على الرموز والمعاني التي اكتسبها الزوجان من أسرهما قبل الزواج؛ ونادت بأن نجاح التفاعل بين طرفي العملية التفاعلية (زوج وزوجة) يتوقف على درجة التطابق أو التباين في الرموز والمعاني التي يحملها كل منهما، بمعنى أنه كلما تقارب الزوجان في الرموز والمعاني التي اكتسباها من أسرهما كلما كانت درجة التفاهم والمحبة بينهما أكبر، ولن تشكل مصاعب الحياة ومشكلاتها حينئذٍ مصدر تهديد كبيرًا على استمرار حياتهما الزوجية، وكلما تباعد الزوجان في عالمهما الرمزي، أو اختلفا في الرموز والمعاني التي يحملها كل منهما، كان من العسير على أحدهما توقع دور الطرف الآخر، وكان ذلك نذيرًا باضطراب الحياة الزوجية، ومؤشرًا على ضعف التفاعل بينهما ومهيئًا لوقوع الانفصال العاطفي، وقد يقرر الطرفان حينئذٍ - لاعتبارات معينة- استمرار الرابطة الزوجية على تلك الحالة من الضعف التفاعلي والانفصال العاطفي، أو قد يقرران معًا أو أحدهما إنهاء هذه العلاقة التفاعلية الضعيفة باللجوء إلى الطلاق.