د. محمد بن إبراهيم الملحم
بهذه العبارة تدق وزارة التعليم مسماراً إضافياً في نعش موت الثقة المتبادلة مع منسوبيها، وسوف أحكي لكم هذه الحكاية، فالوزارة قررت أن تتأكد من مدى مصداقية دوام موظفيها في إدارات التعليم وأنهم وإن بدؤوا دوامهم بالتوقيع الإلكتروني المركزي والذي يضبط حضورهم جميعاً دون شائبة تدخل بشري قد يؤثر في ثقة هذا الانضباط، فإن ضمان وجودهم فعلاً في مكان الدوام أثناء اليوم وأنهم (مثلاً) لم يعودوا لمنازلهم ليغطوا في نوم عميق يحتاج إلى إجراء إضافي من وجهة نظر الوزارة، ولذلك تفتقت فكرة أن يتم تحضير الموظف أثناء الدوام وبشكل عشوائي وغير محدد الوقت من خلال رسالة جوال تصل إليه تقول «كن مستعداً للتحضير خلال خمس دقائق» وتتم عملية التحضير بأن يسجل تواجده بصورة له أو من خلال صوته بواسطة تطبيق الجوال الخاص بذلك ولاسيما أن البرنامج يكون قد سجل مسبقاً صوت كل موظف وبإمكانه التعرف ومطابقة الصوت (إلا إذا كان الموظف مزكوماً وهذه قصة أخرى!!) وبالتالي سيثبت لدى البرنامج أن الموظف مداوم فعلاً، أما إذا لم يستجب لهذه الرسالة خلال الدقائق المحددة للتحضير فسوف يعتبر متهاوناً ومستهتراً بالعمل فقد «زوغ» من الدوام وربما يحسم عليه ويعتبر غائباً إذا تكرر منه.
أنا آسف لإزعاجكم بهذه الحكاية خاصة بالنسبة للذين ليسوا تابعين للتعليم ولأول مرة يسمعون بهذا الإجراء الجديد العجيب. وما أحكيه لكم مناقض تماماً للمفهوم السليم عن علاقة الرئيس بالمرؤوس والتي تقوم على الثقة، ليس مع المخلصين في عملهم بل حتى مع غيرهم، فهي أساس لإصلاح وتقويم المخالفين والمقصرين، والحديث في ذلك يطول. المهم أن هذه الرواية لا تتحدث عن نقص ثقة الوزارة بموظفيها المتجاوزين ولكن نقص ثقتها في القياديين في إداراتها، فمركزية هذا الإجراء (التأكد من صحة دوام الموظف خلال اليوم) تبث رسالة قوية وحادة الوضوح أن الوزارة الموقرة لا تثق في القياديين من الرؤساء الذين يتابعون دوام موظفيهم طوال اليوم فهم يعملون معهم في نفس المكتب ويشاهدون دخولهم وخروجهم أثناء الدوام (وهو السنة المتبعة في كل منظمات العمل في كل العالم تقريباً) فكيف يتم تجاوز هذا الدور تماما وإلغاءه والتحول إلى إجراء مركزي تماماً يتجاوز كل هذه الاعتبارات، فليس هناك من تفسير سوى أن الثقة في القياديين انعدمت لدى الوزارة.
قبل تطبيقه على المعلمين، فإن هذا الإجراء يطبق حاليا تجريبيا على موظفي إدارات التعليم والمشرفين التربويين ومديري الإدارات والأقسام مما يعني أن الثقة عدمت في هؤلاء من أصحاب الخبرة العميقة وأهل المصداقية والثقة (تاريخيا). ومع أن وصف هذا الإجراء للمستمع العادي يكفيه أن يعقبه من يكتب مثلي بعبارة (لا تعليق) ولكني آثرت بيان هذا الإسقاط المهم في مسألة «الثقة» وذلك على إثر مناقشة مع بعض الفضلاء الذين يعملون في الإشراف التربوي حالياً ووجدت منهم تحليلاً نقدياً للموضوع من جانبه التقني والتنفيذي فهم يرون أنه غير واقعي باعتبار أنه يفترض أن كل شخص سيترك اجتماعاته وتركيزه على الكمبيوتر لإنجاز مهامه التخطيطية أو قيامه بالعملية التدريسية (في حالة المعلم) ويضع باله واهتمامه لأية رسالة تصل إليه في أية لحظة تقول له «استعد للتحضير خلال خمس دقائق» فإن لم ينتبه لها ومضت الدقائق الخمس ولم يحضر إلكترونياً فإنه سيتعرض للحسم من راتبه لكونه غائباً نظاماً حسب ما يقتضيه هذا الإجراء عند تطبيقه رسمياً! ولا أدري كيف سيحضّر من يكون قد دخل لتوه إلى دورة المياه ولديه عارض إمساك مثلاً لا يمكنه من الخروج قبل الفترة المحددة! واعذروني لهذا المثال ولكنها ضرورة ألجأتنا إليها إبداعات نسأل الله أن يحرمنا من أمثالها. وبعيدا عن كل هذه المناقشة فإن ما شدني إلى الموضوع هو ليس في فشل الإجراء من الناحية العملية لكثير من الحالات التي ستتعرض لسوط الإجراء، بينما هي تقوم بواجبها خير قيام، ولكن في مفهوم تصميم الإجراء نفسه أو ما يسمى Concept Design فمع أن المشروع مضى خطوات كثيرة إلى أن وصل مرحلة تجريب تطبيق الجوال المعد لذلك، فإني أستغرب كيف عبر مرحلة التصميم ولم يتم الاعتراض عليه أخلاقيا في أول خطواته المبكرة من أي فرد من قياديي الوزارة الموقرين، وهم رجال ونساء فضلاء كثير منهم عملوا في الميدان ويفترض أن يدركوا الأثر السلبي العميق لهذا الإجراء على العلاقة بين الموظف ومنظمته التي ينتمي لها.
لا شك أنه يسهل جدا تحويل جميع العاملين في الوزارة إلى آلات تعمل وتقوم بواجبها دون شائبة بسوط أوسياط التنظيمات والقوانين ولكن أداء هذه الآلات سيكون ميكانيكياً بحتاً يخرِّج آلات مثلهم، وسيكون هناك منتج كمي تحتفي به الوزارة بشكل أو بآخر، ولكن هذا ليس هو ما يبني بلداً طموحاً مثل بلدنا يحتاج إلى الإبداع والتحليق لتحقيق رؤية طموحة خلاقة، وهو في النهاية ثورة على أخلاقيات العمل ومبادئه السائدة ليست لها حاجة طالما أن الجودة النوعية ذاتها لا تزال تراوح مكانها، فمهما حققت من نتائج كمية تدبج في إحصاءات قبل وبعد فأثرها السلبي في ولاء الموظف والقيادي لمنظمتهم لا يحتاج إلى كثير كلام، هذا نداء إلى معالي الوزير- حفظه الله- أن يطلب هذا الملف ليناقشه مرة أخرى مع من طرحوه ويستدعي كذلك نخبة من العاملين في الميدان ليستمع منهم، ثم إذا توصل معاليه إلى أن باطن الأرض خير لهذا المشروع من ظهرها فلن يكون ذلك قادحاً في قيمة الوزارة أبدا بل العكس، ومعاليه أهل للقرارات الشجاعة.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً