د. تنيضب الفايدي
هي بلدة معروفة تعرف اليوم باسم المويلح، تقع إلى الشمال من مدينة ضباء، وسميت به لملوحة آبارها، واشتهر بهذا الاسم ابتداءً من العصر المملوكي نسبةً على صفة مائها.
أما في القرون الهجرية الأولى فقد عرفت باسم النبك، وكانت مرفأ تطرح إليه السفن المارة بالبحر. الآثار الإسلامية لـ غبان (ص31)، كما كانت منهلاً من مناهل طريق الحج المصري الساحلي، لذا ذكرها عددٌ من المؤرخين والرحالة، قال الجزيري في الدرر (2-1250): «النبك ويسمى المويلحة وهو على ساحل القلزم ويرد ماؤها وهو ملح رديء لا يكاد يسيغها الشارب، ومن شربه أفرط به الإسهال لشدة ما به من البورقية والملح». وقد انفرد المقدسي باعتبارها إحدى المدن التابعة إدارياً لوادي القرى. أحسن التقاسيم للمقدسي (ص61).
وابتداءً من العصر المملوكي حملت النبك اسم المويلح تصغير مالح على وصفه مائها كما قلت، وفي سنة 955هـ يصفها الجزيري قائلاً: «المويلح ويسمى النبك عند أهل الدرك، يسير إليها أولاً بين جبال وكهوف وحدرات متعددة ومحاطب شجر... والمحطة بجانب البحر الملح، وبها صيادون للسمك في قوارب جلاب صحبة النصارى للبيع على الحجيج ويحصل بذلك رفق للركب، ويوجد بها الحشيش لعلوفة الجمال والأغنام في الغالب».
وفي عام 1196هـ مرّ هنا الدرعي حيث يقول: «ونزلنا المويلح وهو بندر حصين به وخارجه آبار كثيرة منها العذب وغيره وبه بعض نخل وهو أكبر البنادر وأجمعها للأعراب، وبه جيش سلطاني لا يفارقه أبداً وأقمنا به ليلتين».
كما اشتهرت المويلح كمحطة للحج حيث كان لحجاج مصر في العصور الإسلامية المبكرة بعد رحيلهم من مدين طريقان: أحدهما داخلي، والآخر ساحلي، فالطريق الساحلي يسلك بعد مدين ساحل البحر، ويمر على عينونا، ثم النبك، (المويلح)، ثم ضباء، ثم العونيد (عنتر)، ثم الوجه، ثم الحوراء (أملج)، ثم نبط، ثم ينبع النخل، ثم الجار، ومن الجار يتجه الطريق إلى مكة المكرمة مروراً بالجحفة أو مروراً ببدر إلى المدينة المنورة. فقد ذكر الحربي في كتابه المناسك (ص401) المويلح ضمن طريق الساحل حيث يقول: « من أيلة إلى عينونا، ومن عينونا إلى المصلى، ومن المصلّى إلى النبك، ومن النبك إلى ظُبّة، ومن ظبة إلى المرة، ومن المرة إلى عونيد، ومن عونيد إلى الوجه، ومن الوجه إلى منخوس، ومن المنخوس إلى الحوراء، ومن الحوراء إلى قصيبة، ومن قصيبة إلى البحرة، ومن البحرة إلى ينبع ومن ينبع إلى الجار، ومن الجار إلى المدينة». كما أورد الجزيري في كتابه الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة أورد بأن عينونة مرحلة من مراحل الحج حيث قال: ثم إلى بدا يعقوب عليه السلام، إلى ضباء، إلى النبك والصَّلا، إلى عينونة، إلى مدين، إلى أشراف البغل، إلى وادي الغراب، إلى حقل».
وقال أبو عبيد البكري: «والطريق من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصر على الجادة من المدينة إلى ذي خشبٍ إلى السويْدا إلى البزوة، إلى سقيا يزيد، إلى بَدا يعقوب عليه السلام، إلى ضباء، إلى النبك، والصَّلا، إلى عينونة، إلى مدين، إلى أشراف البعْل، إلى وادي الغراب، إلى حقْلٍ، إلى مدينة أيلة، إلى بطن نخر، إلى قبر أبي حميد -وهو وادي القباب-إلى القلزم، إلى جب عميرة إلى مصر».
وقد جاء النبك عند ذكر المنازل المصرية نظماً، فمن ذلك ما ذكر الجزيري في الدرر:
وقرّت عيوناً بالعيُونِ وراجعَتْ
وقد طلَّقَتْ أجفانُها لكرَاها
ولا تنْس وادِي النَّبْكِ إذْ نزلتْ بهِ
فروَّتْ وسارتْ تستلذُّ عَنَاها
ويقول في موضع آخر:
ثم العيون ويليها الشَّرْمَهْ
عساك تفهم ما تريْدُ فَهْمَهْ
وبعدَها تَنزل في المويْلِحَهْ
يا ربِّ أصْلِحْ ماءَها ما أَمْلَحَهْ
ووسْمُهَا بالنَّبْكِ أيضاً يُذْكَرُ
ومَنْ بنَى خَاناً بها يفْتَخِرُ
وذكر ابن جماعة محطات القوافل ومنها المويلح:
وادي عفان بعده المغاره
قبرُ الطواشي بعدُ بالإشارة
وبعدها تنـزل في المويلحهْ
يا ربّ أصلحْ ماءها ما أملحَهْ
ووسمُها بالنبكِ أيضاً يذكَرُ
ومن بنى خاناً بها يفتخِرُ
كما تمّ ذكر المويلح من الرحالة الإسلاميين والغربيين، يقول العياشي في ماء الموائد (ص26): « ثم ارتحلنا منه، ونزلنا إلى ساحل البحر، ولم نزل نسايره إلى بندر المويلح، ونزلناه بعد العصر، وماؤه كثير، وفيه آبار كثيرة، وبساتين حسنة ونخل، وهناك حصن كبير فيه عسكر وأمير، وتخزن فيه الميرة والفول كثيراً، وعلى بابه سوق كبير، ويوجد فيها غالباً المحتاج. وفيه مقاثي كثيرة من دلاع وبطيخ وغير ذلك. وبه مرسى حسنة تنزل بها السفن القادمة من سويس والقادمة من جدة، ومن القصير».
وكان الهواء يوم نزولنا فيه ويوم إقامتنا بحرياً بارداً، وبالجملة من يوم خروجنا من مصر إلى المويلح لم نر حراً شديداً.. وكان نزولاً بالمويلح يوم الجمعة الثالث عشر من شوال وأقمنا بالمويلح يومين.
وقال في العودة -يذكر المويلح-: وأتينا المويلح ضحى بعد ما اشتد الحر، ولما قربنا من البندر تقدمت أمام الإبل، وملت إلى حائط من نخل لاستريح، فوجدت حارسه رجلاً من المغاربة من زناتة أفريقية، تعوّق هنا فأدخلني الحائط وآواني إلى عريش له، حوله جابية ماء بارد، وقدّم لي من رطب الحائط، فأكلت وقيّلت هناك عنده حتى ذهبت سورة الحر. وبات الركب في المويلح في أرغد عيش.
ويقول ابن عبد السلام الدرعي المغربي في ملخصه (ص63): «ونزلنا المويلح ضحى، ذي آبار كثيرة عذبة، وقامت به سوق عظيمة، لم ير مثلها، وها هنا ينتهي درك مصر، الأحويطات وغيرهم، يحملون الكراء إلى هنا، فيحمله أعراب الحجاز». وتحدّث جون لويس عن المويلح حيث يقول في كتابه ترحال في الجزيرة العربية (ص356): «وإلى الشمال من الوجه على مسافة يومين جنوبي «مويلح» يقع مرسى ضُبا المشهور بآباره الممتازة، ويقع مكان المرسي في خليج واسع هو أحد أفضل الموانئ على هذا الساحل؛ وتقع الآبار على مسافة نصف ساعة داخل الأراضي في بستان نخل تحت أشجار النخيل. وتمرُّ طريق قافلة الحج المصرية من هنا، وتم بناء بركة أو خزان لتأمين راحتها. وتقف السفن التي تُبحر من القُصير إلى ينبع في هذه النقطة عامةً، ثم تتابع من هناك رحلتها الساحليّة باتجاه الجنوب. وإلى الشمال من «ضبا» على مسافة يومين منه، يقع حصن مُويلح وقريتها الصغيرة، وقد مررنا بها على مسافة معيِّنة، لكني تمكنت من رؤية مزارع كبيرة من أشجار النخيل قرب الشاطئ. إن ما يدعونه الحصن يبدو كبناء مربع يقع على السهل الكبير القريب من المياه، وموقع مويلح مميز جداً بسبب الجبل الشاهق الذي يقع خلفها تماماً وله ثلاث قمم مستدقة الرأس ترتفع عن الأخريات بحيث تمكن رؤيتها من مسافة ستين إلى ثمانين ميلاً. وقيل لي أنه يمكن رؤيتها من القصير عند شروق الشمس في أيام الشتاء الصافية. ومويلح هي المركز الرئيسي على هذا الساحل من العقبة نزولاً حتى ينبع، ويمارس سكانها وهم بقسمهم الأكبر من البدو المستوطنين، تجارة الماشية والسمك مع ينبع وطور،ويرتادُ سوقهم العديد من البدو من داخل البلاد. وهي المكان الوحيد على هذا الساحل حيث تقام سوق بشكل منتظم، وحيث تتوافر المؤمن باستمرار؛ وبالتالي فإنها تؤمّن الراحة المؤقتة للسفن التي تعوق مرورها الرياح المعاكسة». وفي سنة 1264هـ زار المويلح جورج والين الفنلندي (الحاج عبد الولي) فقال: «المويلح بلدة من أعمال حكومة مصر، ومن أهم الأماكن على طريق حجّاجها إلى الحجاز، وفيها كما في سواها من المحطات الرئيسية في طريق الحج، قلعة وبعض منازل من حجر».
واشتهرت النبك (المويلح) بالقلعة، أسست هذه القلعة سنة 968هـ (1560م)، وبنيت على ربوة ترتفع عن مستوى الوادي، وتحيط بالقلعة المزارع التي وفرت المياه اللازمة لبنائها، قلاع منطقة تبوك للعوفي (ص12) ويزيدها جمالاً موقعها الملاصق للشاطئ ولطافة أجوائها، ومن آثار المويلح أيضاً الآبار السلطانية، ومن أشهرها بئران يسمى أحدهما البئر الشمالي ويرجع إنشاؤهما إلى عصر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون 741هـ، والذي بناهما الأمير آل ملك الجوكندار المنصوري، ولا تزال هاتان البئران باقيتين في الجزء الشمالي من القرية على مقربة من الشاطئ.
وهناك أربعة آبار أخرى أنشئت مع مشروع قلعة المويلح إحداهن تقع في فناء القلعة، والثلاث الباقيات يقعن في بطن الوادي إلى الشرق من القلعة، ومن أشهر تلك الآبار بئر الورادة الذي يوجد بداخلها نقش تأسيس يعود إلى عام 967هـ.
كما اشتهرت المويلح بشاطئ جميل، وهذا شاطئ يتألف من منطقتين، إحداهما رملية والأخرى حصوية، وأعماق المياه فيه متدرجة ملائمة للسباحة والرياضيات البحرية المختلفة.
هذه نبك (المويلح) من أهم المواقع للآثار المعروفة في شمال الحجاز، تمتاز بمزايا عديدة، لكن مكانتها تلاشت مع التغيرات التي حدثت بها كمواقع أخرى.