د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ستحل ليالي العشر المباركة من شهر رمضان الكريم، وليست لياليَ معتادةً، فهي موسم حصاد، وموسم زراعة في آن واحد، وهي فرصة لمن يصطاد الفرص، وما أكثر الباحثين عنها، فمن تتوق نفسه إلى السياسة فهو يتحين الفرصة المتاحة إلى مكانة يطمح إليها، وربما يصارع في بلوغ مرامه بالكلام والمؤتمرات الحزبية، أو غير ذلك من الوسائل المعروفة، ومنها قوة السلاح وسفك الدماء، كما هي حال الانقلابات، التي كانت سائدة في سنوات مضت، وتحدث حتى الآن على نطاق محدود جداً، وهناك المنتهز للفرصة عن المسؤولية الإدارية فيلتفت يمنة ويسرة لعله يحظى برضا مسؤول يدفع به إلى مبتغاه، وآخر يبحث عن فرصة مالية يبدأ بها حياته المعيشية، أو يزيد من ثروته في فرصة يراها مناسبة، والمغرمون بالأسهم والمتابعون للأسواق، يلتقطون الأنفاس بين فترة وأخرى، لعل فرصة مواتية تجعلهم أثرياء، كما يحلمون، مثل من صادف شراءه لشركة انفيديا، هكذا هم الناس في دنياهم ولا عيب في ذلك، لكن الآخرة أيضاً تحتاج إلى انتهاز فرص، وليس هناك فرصة أثمن من العشر الأواخر في رمضان التي فيها ليلة خير من ألف شهر.
ليس من الصواب أن تتاح للمسلم فرص الدنيا فيحاول قنصها، وقد يخسر أو يربح، ويترك فرصة متاحة مضمونة العواقب إن كان صادقاً في توجهه إلى الله لبلوغ مكاسب الآخرة، التي هي أثمن من مكاسب الدنيا، وهذا لا يقلل من السعي في الدنيا، قال الله تعالى:
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، والعشر الأواخر لاريب فرصة لطالب الدنيا والآخرة، وليس مطلوباً منه غير التفرغ عشر ليالٍ فقط، للصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، والعزم على التوبة من الذنوب، وترك ما قد يشوب تلك الأيام والليالي من قول أو فعل مخل، أو أن يستسلم للنفس الأمارة بالسوء، والنهج المضل، والعمر سنوات وينقضي، وخير الزاد التقوى، ومفتاح التقوى العبادة، ومدرستها العشر الأواخر، فهل نتعلم من تلك العشر الفضيلة من رمضان الكريم من الصبر على العبادة، ما يوجد توازناً في حياتنا بين متطلبات الدنيا والآخرة، وذلك بالقيام بالواجبات، وترك المعاصي.
ليس من الحكمة أن تمر هذه الليالي والأيام دون أن نحمل زاداً يفتح الله به لنا أبواب خير الدنيا والآخرة، فإن كنا نبحث عن فرص في ميدان الحياة التي أمرنا الله بالسعي في العمل على إعمار الأرض، طالما أننا على قيد الحياة، فإننا أيضاً نحتاج إلى استغلال العشر لبناء رصيد أخروي ينفعنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والإنسان لا يعلم هل ستتاح له فرصة أخرى، وعشر أخرى، أم أن سنة الله في خلقه، في أن يأتيه اليوم المحتوم، الذي لا يستقدم فيه الموت ساعة، ولا يستأخر، ولا راد لقضاء الله وقدره، ومن أسوأ العادات لدى الإنسان التسويف والتأخير، وإرجاء العمل إلى الأيام القادمة، أو كما يقول القائلون اي بي ام على اسم تلك الشركة المشهورة، وهي تعي أي يعني إن شاء الله، وهي جملة حق لكن إذا استخدمت في غير معناها واستخدمت للتأجيل أصبح استخدامها غير صائب إلا إذا كان مبرراً تبريراً حقيقياً، أو ألبي فتعني بكرة، أي غداً، واستخدامها للمماطلة يخرجها من معناها، أما حرف ام فتعني معليش، وهي كلمة دارجة، وربما تستخدم بكثرة للاعتذار، وقد تكون للتسويف، وعدم الجدية في العمل سواء للدنيا أو للآخرة.
في هذه العشر المباركة هناك من يعتكف في المسجد أو في المنزل، متفرغاً لأداء الفرائض، والقيام بالسنن، وقراءة القرآن والدعاء والتسبيح والاستغفار، راجياً ما عند الله منصرفاً عن أمور الدنيا، فلا يزور ولا يزار، ولا يباشر زوجته، ولا يشارك في مناسبات، ولا يأكل من ولائم، ليس له هم ولا شغل إلا العبادة، منصرفاً لها بقلبه وجوارحه، لا يخرج من مكانه إلا لقضاء حاجته، وهو من يحدد عدد الأيام التي يرغب الاعتكاف فيها، فهناك من يعتكف العشر كلها، وهناك من يعتكف ثلاث ليالٍ، وهناك من يعتكف يوماً واحداً، وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو، ولا يعرج يسأل عنه، وقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم.
في هذه العشر المباركة، يجتهد المسلم بالصدقة والبذل لعل دعوة له من محتاج تفتح له باب خير أو تغلق باب شر، والصدقة في ذاتها تقرب إلى الله ورجاءً لما عنده، والتكافل الاجتماعي أمر الله به، وحث عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ
بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ
وفي هذه العشر المباركة تمتلئي المساجد بالمصلين، وقد يكون هناك زحام في بعضها، فعلى المسلم أن يفسح لأخيه المسلم، وأن يبتعد عن اللغو والمناكفة، وأن يختار خير الكلمات وألطفها عند سؤاله أو رده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق، والأولى بالمسلم أن يكون أفضل الناس خلقاً، لاسيما في العشر الأواخر، لعلها تكون في هذه العشر تدريباً ينهجه بعد انتهائها.