أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عندما يصل الطالب في الجامعة إلى السنة الثالثة في الأقسام الأدبية يكون بينه وبين التخرج سنتان. وقد كان الطالب الجامعي يشعر أنه حصل في السنتين الأولى والثانية في متابعته الدؤوبة وحرصه على الاستفادة من الأساتذة ما دام متفرغا للدراسة إلا من ممارسة بعض الأعمال التي تساعد في تحسين الجانب المادي كأعمال السكرتير في بعض المكاتب التي تمارس نشاطا تجاريا، وكان وجود مسارين للدروس أحدهما يبدأ في الساعة الثامنة صباحا لينتهي في الساعة الثانية بعد الظهر ويبدأ المسار الثاني في الثالثة مساء لينتهي في الثامنة ليلا. ولما وصلت إلى السنة الثالثة كان بإمكاني مع بعض المساعدة من أساتذتي تسجيل اسمي مدرسا بديلا كما سبق ذكره في هذه الشذرات في الحديث عن ترشيح أستاذي وشيخي عاصم بهجة البيطار -رحمه الله- لي للتدريس في الثانوية التي تحمل اسم والده -رحمهما الله- في حي الميدان. أصبح لدي وقت أكثر لقضائه في الجامعة، والاهتمام بإكمال عملي البحثي الذي استقصيت كل متطلباته من مطبوع ومخطوط تقريبا، وأعني جمع ديوان الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة الجشمي الذي قتل في غزوة حنين مشركا بعد تاريخ فروسية حافل، وقد كان مرزأ فقد إخوته ورثاهم، وأعجب بالخنساء الشاعرة وجاء لخطبتها وكان صديقا لإخوتها ولكنها لم ترض به لكبر سنه.
كان جمع الشعر وتحقيقه حينئذ عملا مضنيا يحتاج متابعة وخبرة في مصادر التراث، كنت بدأت باكتسابها من استشارة أساتذتي وطرح ما يشكل علي بين أيديهم، وكنت أظفر بمساعدة الجميع وتشجيعهم. اجتزت السنة الثالثة، ووضعت قدمي على بوابة التخرج التي مرت بسلام ومعدل كان كافيا بجانب ما حققته من معرفة بمصادر العلم الذي اخترته وطرق التعامل معه. كان معنا في القسم طلاب من جنسيات أجنبية توثقت صلتي بهم منذ السنة الثالثة، وكان أقربهم إلى نفسي صديق من رومانيا اسمه إيريس رادوليسكو وروماني آخر اسمه فيرجيل وصديقة بولونية اسمها إيرينا وأخرى من الجنسية نفسها اسمها صوفيا كانوا يسكنون في السكن الجامعي ثم انفرد الشابان بسكن قريب من كلية الآداب في حي المزة في شقة تقع في الدور السابع مما كان يسمى «عمارات الـ 14» دورا. كانت الشقة من ثلاث غرفات ومطبخ وحمام وصالون فعرض علي الصديقان عرضا مغريا بالسكنى معهما قبل انتهاء السنة الثالثة لتدعيم معارفهما في اللغة العربية وأدبها. كان العرض مغريا لأن الشقة مريحة قريبة من الكلية مشيا على الأقدام أو بحافلة من حافلات النقل الجماعي، فوافقت بلا تردد وغادرت سكني الذي كنت انتقلت إليه بعد مغادرة حي الشيخ محيي الدين، وكان يقع غير بعيد من السكن الجديد في حي الشيخ سعد الشعبي في حي المزة. وظللت في السكن مع الزميلين الرومانيين حتى حصلنا معا على دبلوم الدراسات العليا، الفرع اللغوي عام 1981م. تخرجت وقبلت في مسابقة المعيدين في جامعة حمص فشددت الرحال إلى مسقط رأسي عائدا إلى البيت الذي خرجت منه وبدأت في هذه المرحلة التفكير بإنشاء مكتبتي الخاصة. ولا أود المضي أكثر في هذه الشذرة دون أن أحبّر صفحة في ذكر أستاذي الأثير في هذه المرحلة الذي استضافني مدة في مكتبته العامرة التي أنجزت فيها أوائل أعمالي في جمع الشعر القديم والتدريب على فهم النصوص وتحقيقها؛ إنه أستاذي الجليل البروفسور محمد رضوان الداية (أبو لؤي) -يحفظه الله- الذي كان يستضيفني في مكتبته العامرة التي تشغل شقة كبيرة في مدينة «دوما» في محافظة ريف دمشق، ودوما مدينة عريقة التاريخ بأهلها وعلمائها، كان أبو لؤي عونا معنويا وماديا وعلميا أسهم في تكويني الإنساني والعلمي، كان أستاذا وعالما وصديقا ومؤنبا برفق بعض الأحايين، صادق المودة لأهل العلم من أساتذته وزملائه. في مكتبته أنجزت أول أعمالي في جمع دواوين الشعراء الذين فقدت مجاميع أشعارهمأولها ديوان «دريد بن الصمة الجشمي» كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وفي مكتبة أبي لؤي أنجزت شعر الشاعر العباسي محمد بن حازم الباهلي (ت. 217 أو 218هـ) امتدح الزهد والقناعة وذم الحرص، وبرع في وصف الشيب ومدح الشباب. وصدر عن دار قتيبة في دمشق عام 1982 م، ثم نشرت بعد صدوره في العدد 34، السنة 12، 1988م ، من مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، وكان صدور الملحق سبيل خير يسره الله ليكون وسيلتي إلى التواصل مع علامة الجزيرة، أستاذنا وشيخنا حمد محمد الجاسر ( 1328 - 1421 هـ) -رحمه الله-، وكنت حين صدوره في مدينة مرسيليا الفرنسية مدرسا مساعدا للعربية في إحدى مدارسها عندما وصلت إلي رسالة من مجمع الأردن عن طريق الصديق الأستاذ الدكتور عبد الإله نبهان- رحمه الله-، وكانت الرسالة تحمل في طياتها عتبا على نقل تراثي لم يكن لي ذنب فيه يخص القبيلة العريقة (باهلة)، فرددت على الرسالة برسالة لطيفة قلت فيها: « لو لم يكن ليتعبك من المآثر إلا قتيبة بن مسلم الباهلي وعبد الملك بن قريب الأصمعي لكفاها ولغرق ما يقال في بحر محاسنها» ويبدو أن الرسالة لقيت استحسان الشيخ -رحمه الله- فنشر رسالته وردي عليها في كتابه الموسوعي «باهلة القبيلة المفترى عليها، ط1، 1410هـ/1990م، دار اليمامة للطباعة والنشر 727 صفحة. وفي مكتبة أستاذي البروفسور محمد رضوان الداية أنجزت شعر محمد بن بشير الخارجي (خارجة عدوان) الذي سبق ذكره. قضيت شطرا من سنة 1982م متنقلا بين حمص ودمشق لأنهي ارتباطي بالتدريس في الثانوية التجارية للبنات في حي المزة، ولأتابع تكليفي بالتدريس في كلية الآداب بجامعة حمص، بعد أن تأخر تعيين المقبولين معيدين فيها بسبب حاجة الجامعة إلى قرار بإحداث ملاك توظيفي وهو ما لم يحدث إلا في منتصف عام 1983م. كان التحاقي بالتدريس في كلية الآداب في حمص التي كانت تضم قسم اللغة العربية وقسم اللغة الإنجليزية فرصة لقضاء سنتي 1982م و 1983م رفقة أساتذة أحباء وزملاء أعزاء توطدت الصلة بهم في اجتماعية أسبوعية كانت في البداية تبدأ في مقهى شعبي يقع في الحي المسمى «جورة الشياح» في وسط حمص، يمتد من ساحة الساعة القديمة في وسط المدينة إلى مسجد الصحابي الجليل خالد بن الوليد -رحمه الله-. كان المقهى فلكلوريا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ويبدو أنه كان مسرحا قبل أن يتحول إلى مقهى يدل على ذلك وجود الدكة المرتفعة التي كان عمال المقهى يحجزونها للأساتذة كما كنوا يسمون كوكبة المثقفين التي تختلف إلى المقهى في مساء كل يوم أربعاء؛ ولهذا اليوم في حمص حكايات وحكايات ويبدو أنه كان من الأيام التي ينفر الناس منها إذ يقول محمد بن حازم الباهلي في هجاء أحد الثقلاء:
لقاؤك للمبكر فأل سوء
ووجهك أربعاء لا تدور
وبعد العشاء كانت المجموعة تتجه في أول الأمر إلى العشاء في نادي الضباط لجودة طعامه واعتدال أسعاره، مقارنة بالمطاعم التي كان الجمع يلجأ إليها بعض الأحايين. وفي هذه الجلسة ولدت خطط كثير من البحوث والكتب والمحاضرات التي كان رائدها الصديق المجمعي العلامة عبد الإله نبهان والأستاذ الدكتور الصديق الصدوق فؤاد عبد المطلب أستاذ اللغة الإنجليزية والمترجم والباحث في الترجمة والشاعر الأستاذ التراثي الأنيس مظهر الحجي، والدكتور اللغوي والبلاغي المتبحر سمير معلوف، كان الوافدون إلى حمص من أهل الثقافة والعلم والشعر يحلون ضيوفا على الجلسة، ويأنسون بالأحاديث العلمية والقصائد المحبرة. وانضم في مرحلة من مراحل الأنس زميل هو الأستاذ الدكتور إلياس بيطار أستاذ اللغات السامية في جامعة دمشق الذي اختار سكنى فلة تملكها زوجته أستاذتنا الدكتورة منى إلياس أستاذة النحو والصرف في جامعة دمشق، وهي أصلا من حمص سكن والداها حي المحطة، (محطة القطار) ثم ارتحلت الأسرة إلى دمشق وظل المسكن الكبير مغلقا حتى أعاد سكنى الدكتور إلياس إليه النور والبهاء، فصرنا نلتقي في المقهى ثم نتجه إلى المقر الجديد في ضيافة فلة المحطة كما سميناها. وكم أسعدنا فيه حضور رجال من أهل الأدب والشعر واللغات. وما زال في الذاكرة غضا طريا تذكر ملتقى له في القلب مكانة وفي المسار مكان، وأعني ملتقى الجندول لصاحبه الدكتور التراثي الشاعر محمد فرحان الطرابلسي، الصديق القريب الأريب في السراء والضراء، والملتقى في الأصل مطبعة تقليدية للدعايات والإعلانات بالخط العربي الجميل خصص صاحبها ركنا فسيحا منها إلى مجلس كان يرتاده كبار رجال الفكر والشعر والأدب من أهل المدينة والمناطق المجاورة والوافدون إليها، تجد فيه أخبار آخر الإصدارات ليس في حمص وحدها وإنما في دمشق ولبنان ومصر، وكان بالقرب منه مكتبة الحاج أحمد علوان الذي كان من عجائب تجار الكتب طيب نفس واطلاع على ما يصدر في بيروت ومصر ودمشق ويعطيك فكرة عن الكتاب وطبعاته وميزة ما عنده، كان يبيع الكتب لطالبيها الذين يدفعون أثمانها بلا زيادة على دفعات ميسرة، كانت مكتبة ضيقة المساحة عظيمة الأثر تجلس وتستمع لأخبار الإصدارات الجديدة والقديمة وتشرب شاي «السماور» الفلكلورية التي يجعلك طعمها ترجع غير مرة. كان الجندول ملتقى ومطبعة ودار نشر «دار ملهم» تدور فيها الكتب والقهوة والشاي التي كان صاحب الملتقى الدكتور «أبوملهم» يحرص عليها ويرفقها أحيانا كثيرة ببعض الفستق الذي كان يخرج محمصا حارا من محمصة «المؤذن» في شارع الحميدية، وسط المدينة. كان الجندول يقع في شارع يتفرع عن شارع الحميدية على يسار المتجه شرقا بعد الساعة القديمة ومسجد الدالاتي، يحمل اسم آل رجوب وهم من أسر حمص العريقة، ويحتاج الحديث عن الجندول ورواده مكانا أكثر اتساعا، يحضرني منهم اسم الصديق القاص والمحقق محمد محيي الدين مينو (1956-2016م)، محقق شعر عمرو بن أحمر الباهليّ: دراسة وتحقيق، دار الجيل بيروت 1999م. وقد كان لي إسهام أفخر به في منشورات دار ملهم؛ إذ نشرت فيها بالاشتراك ترجمة لكتاب الطبيب الفرنسي المسلم موريس بوكاي «القرآن والعلم المعاصر» بعد عودتي من فرنسا عام 1995 م. كانت العودة إلى مسقط رأسي ومخالطة هذ الجم الغفير من أهل العلم فرصة لاكتساب خبرات الحياة والتعلم من خبرات أساتذة وأصدقاء كانوا منصرفين إلى العلم، ويملكون مكتبات ضخمة أثروها بنوادر الكتب، فحزوت حزوهم. وبدأت مراحل جمع مكتبتي التي كانت نواة لما جمعته في مساري من كتب بذلت في اقتنائها كثيرا من دخلي في سنوات 1980-1983م، واستكملتها وأنا في فرنسا بكتب فرنسية وعربية كانت تزداد يوما بعد يوم.
استكمل ملاك الجامعة وجرى التعيين بعد صبر ومعاناة مادية، وبدأ الاستعداد في منتصف عام 1983م للحصول على قبول من إحدى الجامعات الفرنسية. وكان لنا في مرحلة الدراسة الجامعية أستاذ هو البروفسور أسعد أحمد علي (1937م…) كان أستاذا ذا طريقة، موفقا في اجتذاب الطلبة بعلمه وموسوعيته وذكائه، ينتدب نفسه للمساعدة في شؤون العلم والحياة. وكان له أخ يعمل في السفارة السورية في باريس، فلما علم بأمري وأمر معيدة أخرى وسألته المساعدة كتب له للمساعدة في الحصول على قبول من جامعة السوربون، والقبول شرط لإتمام عملية الابتعاث، ولم يمض وقت حتى زف إليّ خبر موافقة البروفسور محمد أركون (1928 - 2010) مسؤول قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة السوربون الأولى على منحي وزميلتي قبولا مبدئيا كان كافيا لتجاوز العقبات الإدارية. فشددت الرحال مع مجموعة من الموفدين في 12/12/1983م، وهو ما سيكون موضوع الرحلة الفرنسية. ولنا لقاء.