أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
وُلد الكاتب الكبير «إرنست همنغواي» Ernest Hemingway في «أوك بارك»، من ضواحي مدينة «شيكاغو»، في عام 1899، وقد كانت حياته حافلة بالبطولة، وكأنها معركة ضدّ الموت في الحروب التي خاضها، ومعركة ضد الوحوش الكاسرة في الغابات، والحيتان الفتّاكة في أعماق البحار.
إن الحياة في رأيه معركة متّصلة، ولا بدّ للرجل الذي يستحقّ هذا اللقب من أن يواجه هذه المعركة وجهاً لوجه.. وقد جابهها هو نفسه، وكانت رواياته في كثير من جوانبها فصولاً تروي بطولاته في حياته.
فقد كان منذ صباه الباكر مُغامراً لا يعرف للمغامرات حدوداً؛ تدرّب على إطلاق النار، وأصبح رامياً يُحسن التصويب في العاشرة.
وكان جَلِداً يحتمل الألم بصبرٍ عجيب؛ أُصيب بجرحٍ عميق في حنجرته، فعالجه أبوه وخاط جرحه بدون تخدير، فكان يُصفّر حتى يتغلّب على آلامه، وقد أسبغ هذه الصفة على أحد أبطال رواياته، فالبطل في رواية «وداعاً أيتها الحرب» Farewell to Arms يتغلّب على آلامه، وهو راقد في المستشفى بالصفير!
ومنذ صباه أيضاً، تدرّب على المصارعة، ووقر في ذهنه منذ ذلك الوقت أن الحياة معركة، والخاسر فيها هو من لا يُعدّ نفسه لها.. ونشأ كذلك عنيداً مُفرطاً في عناده.
وقد ورث كثيراً من صفاته هذه من والده الذي كان طبيباً وصيّاداً ماهراً، يُحسن التصويب فلا يُخطئ، فنشأ إرنست ورباط من الحُبّ والإعجاب يربطه بأبيه.. وإن شغفه في كبره باقتناء أنواع من البنادق لأثر من آثار هذا الأب.
وعندما تخرّج من المدرسة الثانوية، عارض رغبة والديه في الالتحاق بالجامعة، وآثر عليها الانخراط في الجنديّة في الحرب العالمية الأولى، ولكن السُلطات رفضته لضعف بصره، فلم ييأس، وسافر إلى الجبهة في أوروبا مُراسلاً حربيّاً لجريدة «ستار».
خرج همنغواي من الحرب الأولى مُمزّق الجسد والروح، يؤرّقه القلق، ويستعصي عليه النوم.. وقد وصف مُعاناته فقال: «إنها حربٌ لم أجد لها معنى، لقد شعرتُ أن روحي تتمزّق وتتناثر، كما تُخرج منديلاً من جيبك فلا تستطيع أن تجعله مُتماسكاً».
ثم إن الشاب الطموح تطلّع بعد الحرب إلى دنيا جديدة موجودة في «باريس»، مدينة النور ومُلتقى رجال الفِكر، كما أنها كانت مراح الجيل الضائع من الكُتّاب والفنّانين الذين هزّتْ الحرب أعماقهم، وبينهم الكثير من أبناء وطنه، فحزم أمره وتوجّه إلى باريس ليكون مُراسلاً لجريدة «تورنتو ستار» في أوروبا.
وفي عام 1923 صدر له في «ديجون» بشرق فرنسا أوّل كتاب، وهو «ثلاث قصص وعشر قصائد» Three Stories and Ten Poems، وبعد أربعين سنة من صدور هذا الكتاب، أخذتْ النسخة الواحدة منه تُباع بمئات الدولارات، وتحتفظ مكتبة الكونغرس بنُسخها من هذا الكتاب، مع مجموعات الكُتب النادرة.
ثم صدر له في باريس أيضاً في العام التالي 1924 كتاب «في عصرنا» In Our Times، فدرّ عليه دخلاً طيّباً، وتُرجم إلى الروسية والألمانية.
ثم توالت كُتبه، فكان منها «والشمس تُشرق أيضاً» The Sun Also Rises، والتي راجت رواجاً كبيراً، واستقبلها النُقّاد بالتقريظ، وبيع منها في روسيا وحدها 57 ألف نسخة.
كان همنغواي العاشق للمخاطر عاشقاً للأرض الإسبانية؛ لأنها أشبعت ميله إلى العُنف، كما هو مُتمثّل في مُصارعة الثيران، ومُصارع الثيران عنده هو قمّة الرجال، لأن حياته سلسلة من المواقف الرائعة في مُجابهة الموت.
وقد دفعه حُبّه لمصارعة الثيران إلى النزول إلى الحلبة، وكاد الثور أن يقضي عليه، ولكن كان من حُسن حظّه أن خرج منها بجراحٍ عميقةٍ فقط، تركتْ في جسمه آثاراً لا تُمحى.
وقد بلغ من حُبّه لهذه المُصارعة، أن وصف عمله الأدبي بمجازٍ مُستمدّ منها، فقال: «لقد تدرّبتُ طويلاً قبل أن أنزل إلى الحلبة، وهكذا استطعتُ أن أصرع «موباسان»، وأن أقف على قدم المساواة مع «ستاندال»، أما «تولستوي» فذاك لا يُنازله إلا كُلّ من فقد رُشده»!
وقد كان من الطبيعي لهذه النفس القلقة ألّا تكون مُستقرّة حتى في الزواج، فبعد أن تمّ طلاقه من زوجته الأولى في عام 1927، التي أنجبت له ولداً، تزوّج من «بولين بفيفر» في صيف العام نفسه، وهي مُحرّرة باب الأزياء في إحدى المجلّات، ثم صدر له بعد هذا الزواج مُباشرة كتاب «رجال بلا نساء» Men Without Women، وهو مجموعة قصص قصيرة.
وقد وصف هذا الكتاب ناقد إنجليزي، فقال: «ليس في بريطانيا من يستطيع كتابة قصّة قصيرة، كقصّة «القاتلون» The Killers، إحدى قصص هذه المجموعة، وطبعاً ليس في أمريكا من يستطيع ذلك أيضاً».
وتطلّع همنغواي المُغامر إلى آفاقٍ جديدة يستمدّ منها موضوعاته، فرأى في صيد الحيتان في البحر الكاريبي مادّة جديدة توافق هواه، فصنع لأجل هذا الغرض قارباً بُخاريّاً كبيراً أسماه Pillar، وأقبل على صيد سمك المارلين بشغف، وتفوّق في هذا الميدان حتى كان بطله المُجلّي.
واستوعب كُلّ هذه التجارب لتكون مادّة لرواياته ا لتي منها «الشيخ والبحر» The Old Man and the Sea، ولقد قال همنغواي: «لا يجوز للكاتب أن يكتب إلا عمّا جرّب وعانى».. وهكذا كان.
ثم إنه استعدّ لمُغامرة جديدة في الأرض الإفريقية، لاقتحام الأسود والنمور في آجامها، وها هي الغابات الأفريقية تتهيّأ لاستقباله، وكان من نتيجة هذه المغامرة الأولى كتابه «تلال أفريقيا الخُضر» The Green Hills of Africa، والتي تُرجمت إلى الروسية أيضاً.
وعصفت الحرب الأهلية بإسبانيا، فسارع إليها ليكون مُراسلاً حربيّاً، ولكنه شارك فيها مشاركة فعلية إلى جانب جيش الحكومة، ضدّ قوّات الفاشيين.
ولمّا انتهت الحرب بانتصار الفاشيين، غادر إسبانيا وأقبل على كتابة رائعته التي كانت من وحي هذه الحرب: «لمن تدقّ الأجراس» For Whom the Bell Tolls والتي نُشرت في عام 1940، واشترت شركة «باراماونت» منه روايته هذه بمبلغ 150 ألف دولار، وهو أكبر مبلغ دُفع ثمناً لقصّة سينمائية، حتى ذلك التاريخ.
وقد ساهم همنغواي مساهمة فعلية في حركة التحرير في فرنسا وفي تحرير باريس، المدينة التي عشقها.. وبعد التحرير استقرّ في شقّة في فندق « الريتز»، والتقى بكثير من الفنانين والأدباء، وخاصّة: بيكاسو، وجون فالرو، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وسكوت فيتزجيرالد، وأندريه جيد، وجرترود شتاين, وغيرهم.
وفي ربيع سنة 1941 وصل مع زوجته إلى لندن، وأُصيب هناك إصابة بالغة بشظايا قنبلة أسقطها الألمان على المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية، وسرَتْ أنباء تُفيد أن همنغواي قد قُتل، فصدرت الصُحف مُجلّلة بنعيه.. وقد جُمعت له أقوال هذه الصحف عنه، ليقرأها وهو على سريره بالمستشفى!
وانتهت الحرب، وخرج منها موشّحاً بأوسمة عديدة، تقديراً لشجاعته وبسالته، وعندما اشتعلت الثورة الكوبية وانتصر «فيدل كاسترو»، وقف همنغواي إلى جانبه، وكان صديقاً له، وانتقل ليُقيم في «هافانا» عاصمة «كوبا» لمُدّة عشرين عاماً.
ثم إن إفريقيا دعتهُ ثانية إليها، فذهب إليها برفقة زوجته «ماري»، واستأجرا طائرة صغيرة، ولكنها سقطت عند جبال «كليمنجارو»، وكُسر ضِلعان لزوجته، وكان من وحي هذه الرحلة روايته الشهيرة: «ثلوج كليمنجارو» Snows of Kilimanjaro والتي درّت عليه أكثر من مائتي ألف دولار.
ثم استأجر طائرة ثانية، ولكنها لم تلبث أن سقطت أيضاً وتحطّمت.. موت مُحقّق نجيا منهما بأعجوبة، ونقلت أسلاك البرق أنهما قد قُتلا، ولكن كُذّب الظنّ في هذه المرّة أيضاً.
وعاد همنغواي من رحلته هذه مُحطّم الجسم، ينشد الراحة في هافانا، وبلغ من سوء حالته الصحية أنه لم يستطع أن يُسافر إلى «السويد» لتسلّم جائزة «نوبل» في الآداب، التي مُنحت له عام 1954 تقديراً لإنتاجه الأدبي العظيم، وخاصّة روايته الشهيرة «الشيخ والبحر»، فأناب عنه في تسلّم الجائزة السفير الأمريكي هناك.. وهذه الرواية في حقيقتها رمزٌ لصراع الإنسان المعاصر في هذه الحياة؛ إنه صراع يظنّ أنه سيجني منه شيئاً، ولكنه ينتهي دوماً إلى لا شيء.
إن قصص همنغواي صوَر من حياته، فموضوعاتها هي الحُبّ والحرب، أو الحياة والموت، وهُما لا قيمة لهما إلا بما فيهما من مواقف بطولية، وما يتخلّلهما من لذّة مُقتنَصة.. ولو أن شاعر الملاحم الإغريقي «هوميروس» عاد إلى دُنيانا، واستعرض الأدب الحديث لما اختار له بطلاً غير همنغواي، ولما رأى شبيهاً لأدبه أكثر من أدبه.
أما السياسة فلم يكترث همنغواي لها إطلاقاً، وكان دوماً يقول: «إنني أترك شئون السياسة لأولئك الذين يظنّون أنهم قادرون على إنقاذ العالَم»!
وإذا كان «تولستوي» قد وقف طويلاً في رواية «الحرب والسلام» War and Peace عند التساؤل المُحيّر: هل الأبطال والقادة هُم الذين يخلقون الأحداث، أم أن كلّ شيء محكوم بقدرٍ كمدّ البحر وجزْره؟ فإن همنغواي لم يُشغل نفسه بشيء من مثل هذا، لأن الحياة عنده شبيهة بالنهر الزاخر، الذي هو في حالة عنفوان مُستمر.
ومن الطبيعي أيضاً أن نجد الروح المسيطرة على كتابات همنغواي هي التشاؤم، وهي روح أكسبته إيّاها الحرب، وما تجُرّه على البشر من مصائب.. وهذه الروح هي التي سيطرت أيضاً على «الجيل الضائع»، الذي كان يعمر مقاهي باريس ومنتدياتها، بعد الحرب العالمية الأولى.
وقد سُمّي هذا الجيل بالضائع لأنه فقد الإيمان بكلّ شيء، وكان من جُملة ما فقده الإيمان بالمُثُل، والكلمات المُعبّرة عن الصفات السامية.
يقول «هاري»، بطل رواية «وداعاً أيتها الحرب»: «لقد كانت تُحيّرني دائماً كلمات مثل: «مُقدّس» و»عظيم» و»تضحية».. ولكني لم أرَ شيئاً عظيماً، أو شيئاً يستحقّ التضحية»!
إن أسلوب همنغواي مُتميّز حقّاً في الأدب الأمريكي الحديث، وقد بلغ من تأثيره أن الكثرة الساحقة من الكُتّاب الشُبّان، لا في أمريكا وحدها، بل في مختلف البلدان أخذت تُقلّد أسلوبه.
جاءه مرّة كاتب شاب يستشيره في إنتاجه الأدبي، فقال له: «إنك تكتب كما أكتب، وليس هذا سيّئاً، ولكن هذا التقليد لن يؤدّي بك إلى شيء، لأنك لن تكون في جميع الحالات سوى مُقلّد.. نصيحتي لك أن تكتب عمّا تعرف، وسترى أنك ستصل يوماً ما».
إن إرنست همنغواي يُعتبر بحقّ من أولئك الأعلام الذين خطّوا للأدب العالمي الحديث طُرُقه، ومهّدوا شِعابه.. حتى قال فيه «إدموند ويلسون»: «إن همنغواي هو أكثر إنسان نجح في النجاة من المصير الذي تردّى فيه الأدباء المحدثون، وهو الاقتباس من الآخرين».. والقول القديم: «الكاتب هو الأسلوب» ينطبق تماماً على همنغواي.
وختاماً فإن حياة هذا الكاتب الكبير العنيفة، تركت جراحاً عميقة في بدنه ووجدانه، فلما اشتدّ به المرض غادر كوبا عائداً إلى بلاده في عام 1959، ليُقيم في بيته بقرية «كتشام» في ولاية «آيداهو».. وتوالت عليه الأمراض، واستبدّ به اكتئاب وسوداوية عنيفة، فضاق بالدنيا، ورأى بعينيه أنه قد انتهى، فأقدم على الانتحار في صبيحة أحد أيام يوليو من عام 1961.
** **
- من كتاب «أخي إرنست همنغواي» لليستر همنغواي