عبدالله العولقي
هناك على ثغور الدولة العباسية، يغير الروم على بلدة زبطرة ويعيثون فيها علواً وفساداً، فتدخل امرأة مسلمة سوق البلدة، وبينما هي تتسوق إذ يعتدي عليها أحد جنود الروم، ويشتمها بأقذع السمات والأوصاف، ثم ينهال عليها ضرباً بلا رحمة، أما المرأة المسكينة فلا يسعها سوى صراخها وهي تنادي: وامعتصماه!!، وأين للمعتصم أن يسمع صراخها وهو في قصره المنيف بالعراق، لكن الأخبار تتوارد والأنباء تتناقل حتى يصل الخبر إلى الخليفة العباسي المعتصم بالله بن هارون الرشيد وهو متكئ في مجلس الحكم، في عاصمته الجديدة سر من رأى (سامراء)، ومن حوله وزراؤه وأعيانه، بالإضافة إلى العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمنجمين، فهذا الإرث الثقافي قد ورثه من أخيه، الخليفة السابق المأمون ،وعندما علم المعتصم بالخبر بدت على وجهه أمارات الغضب، فشرع ينظر إلى قادات الجيش وكأنه يأمرهم بتجهيز عساكرهم وجنودهم، حينها كان المنجمون يسعون إلى الحظوة عند الخليفة العباسي، وكأنهم قد وجدوا الفرصة متاحة أمامهم الآن، فتقدموا إلى الخليفة بالمشورة والنصيحة، وذكروا له أن مطالع النجوم تخبرهم أن مصير هذه الحرب هو الفشل المحتوم، وأن على الخليفة ألا يغادر سامراء إلا بعد أن ينضج الزيتون والعنب، وحينها سوف يتحقق النصر المؤزر، أما المعتصم بالله الخليفة العسكري فلم يستجب لهؤلاء المنجمين، ولا لهرطقاتهم الفلكية، ولم يلتفت أبداً لتحذيراتهم المتكررة، وقد قرر الحرب أخيراً، فلا تزال لفظة - وامعتصماه - ترن في أذنيه، ولها صدىً عميق يقرع إحساسه بين جوانحه، فلن تهدأ نفسه المتأججة حتى يأخذ لهذه المرأة المسكينة حقها!!.
تحرك الجيش الإسلامي نحو عمورية، وعندما سمع الروم بمقدم الخليفة العباسي، تحرك الجيش البيزنطي بقيادة القائد العسكري توفيل بن ميخائيل، وبعد معركة حامية الوطيس انتصر المسلمون انتصاراً عظيماً، وبعدها عاد الجيش العباسي إلى العاصمة سامراء، وهناك استقبل الجيش استقبالاً يليق بهم، أما المنجمون فتواروا عن الأنظار بعد هذا النصر العظيم، وحينها أقبل الشعراء بمدائحهم تجاه المعتصم بالله، يتقدمهم أمير الشعر في زمانه، حبيب بن أوس الطائي الملقب بأبي تمام، والذي كان يرى أن سلطة القلم أي الثقافة والعلم يجب أن تنحصر في مكانها الصحيح، لدى العلماء والفقهاء والشعراء، أما المنجمون فلا مكان لهم في حدود هذه السلطة، أي سلطة القلم إن صح التعبير، فثنائية السيف الذي يمثله الحاكم تتلازم مع القلم الذي يمثله صفوة العلم والثقافة من العلماء والفقهاء والكتاب والشعراء، ونظراً لأفول نجم المنجمين فقد استغل أبو تمام هذه الفرصة السانحة ليترجم هذه الحالة إلى مطلع القصيدة:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريب
شن أبو تمام هجومه اللاذع على منافسيه المنجمين بلا رحمة:
أين الرواية؟ بل أين النجوم؟ وما
صاغوه من زخرف ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ليست
بنبع إذا عدت ولا غرب
وتطوى السنون والقرون، ويحل القرن العشرون الميلادي، وفي ربعه الأخير، وتحديداً في عام 1971م، يقام مهرجان أبي تمام في موطنه بمدينة الموصل شمال العراق، احتفاء شعبي ورسمي يقيمه أهالي الموصل بذكرى شاعرهم الكبير، ويحضر الحفل عمالقة الشعر العربي من أمثال نزار قباني و محمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم من الشعراء العرب، بالإضافة إلى كبار النقاد والمثقفين العرب، ويبدأ فحول الشعر بإلقاء قصائدهم التي تتعلق بالموصل وأبي تمام، وحين يقترب الحفل من النهاية، يصعد إلى المنبر شاعر مغمور، لم يعره أحد في القاعة بأي اهتمام، ضرير يقوده أحد رفاقه،كث الشعر، قصير القامة، يرتدي ملابس متواضعة جداً، عيناه غائرتان في أعماق وجهه، أما خيوط التجاعيد التي تملأ وجهه فتعكس معاناة الحياة ومرها، بدأ الشاعر يلقي خالدته بمطلع أسطوري يبدو أنه يعارض قصيدة أبي تمام:
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب
بيض الصفائح أهدى حين تحملها
أيد إذا غلبت يعلو بها الغلب
افتتاحية نارية تجبر الحاضرين على الصمت، وهنا يبدأ التساؤل عن هوية الشاعر، وكيف لأحد أن يعارض بائية أبي تمام إلا إذا كان عملاقاً من عمالقة الشعر العربي، وبعد أن استرسل الشاعر الكبير عبدالله البردوني بباقي أبيات قصيدته حتى أدرك الحضور أنهم أمام قامة شعرية كبيرة، وبالتالي فقد كانت بائيته المذكورة هي بداية شهرته الفعلية خارج حدود بلاده اليمن.
الرائع في هذه القصيدة هو استحضار البردوني لشخصية أبي تمام واستدعاء تخيلي خارق لروحه التاريخية عن طريق مواجهته بصيغة الخطاب المباشر، متجاوزاً عامل الزمن وكأنه يرتد زمنياً إلى الخلف ليعود بهذا الاستدعاء:
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر، وخلف ضلوعي تلهث العرب
وقوله:
حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شبابة في شفاه الريح تنتحب
ويبلغ هذا الاستدعاء الذي يتجاوز –كما قلنا- عامل الزمن بصورة ارتداد خلفي قمته الفلسفية بهذين البيتين:
حبيب، هذا صداك اليوم أنشده
لكن لماذا ترى وجهي وتكتئب؟!
ماذا؟، أتعجب من شيبي على صغري
إني ولدت عجوزاً فكيف تعتجب؟
ولا ينسى البردوني بلاده اليمن وما مر بها من أزمات سياسية واقتصادية صعبة، فيصف صنعاء حاضرة اليمن وكأنها:
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
وهنا نلاحظ حتى تشبيهه لمآسي اليمن يستلهمها من مأساة تاريخية يمنية شهيرة تتعلق بثنائية السيف والقلم أيضاً، حيث يستدعي مآلها الوخيم من تلك الحكاية التي وقعت أحداثها في العصر الأموي، عندما ألقى الخليفة الوليد بن عبد الملك (السيف) بالصندوق الذي كان يختبئ بداخله الشاعر الوسيم - وضاح اليمن – (القلم) في نهر دمشق، فكانت نهاية وضاح المأساوية تذكاراً يستلهمه البردوني لمآسي صنعاء في ذلك الزمن ومع استلهام صريح لتلك الثنائية أيضاً!!.
أهم ما يعجبني في القصيدة هو خطاب البردوني لأبي تمام، واستعراضه لأهم محطات حياته:
وأنت من شبت قبل الأربعين على
نار الحماسة تجلوها وتنتخب
فيعتبر أبو تمام هو أول مبتكر للمختارات الشعرية عندما جمع ما استحسنه من الشعر العربي في ديوان أطلق عليه ديوان الحماسة، وتقول بعض الروايات أن أبا تمام توفي في سن الأربعين من عمره، ولهذه الوفاة قصة تداولتها الألسن وحكاها الرواة في كتبهم، تقول الحكاية أن أبا تمام امتدح أحمد بن الخليفة المعتصم بالله، وفي رواية أخرى أن الممدوح هو الخليفة المعتصم نفسه، وهنا نعود إلى عنوان المقالة: السيف والقلم، حيث كان المجلس الذي يترؤسه الخليفة (السيف) يعج بكبار العلماء والمفكرين والفلاسفة والشعراء الذين يمثلون جميعاً (القلم)، وكيف لهؤلاء الأقلام أن يحاول كل واحد منهم أن يصيد الفرصة السانحة لينال الحظوة عند الأمير (السيف) ، وقد ابتدأ أبو تمام مدائحيته بقوله:
ما في وقوفك ساعة من باس
تقضي ذمام الأربع الأدراس
فلما بلغ قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
وهنا انتفض أحد جلساء الأمير، فقد بدت له الفرصة أن يستعرض مهاراته الثقافية أمام الحاكم، وهو يعقوب بن إسحاق الكندي حيث اعتبر نفسه ناقداً ومحكماً على البيت، بمعنى أنه كان يريد أن يغلب أبا تمام في سلطة القلم أمام سلطة السيف فقال: إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب، فمن هم هؤلاء الذين ذكرتهم؟، وما قدرهم؟ ، فأطرق أبو تمام قليلاً، ثم قال:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
وبهذه الإجابة المفحمة ذكّر أبو تمام بأن هؤلاء المشهورين الذين أشار إليهم في معرض مدح الممدوح - جزء من عظمة العرب، وقد ذكرتهم العرب في أمثالها المشهورة، ومن الأمر الطبيعي أن نذكر الجزء للدلالة على الكل، فالله قد اختار المشكاة (كُوّة صغيرة) - لكي يضرب بها المثل على نوره سبحانه وتعالى، وهو أبلغ من أن يوصف، فجعل المشكاة التي فيها مصباح لتقريب الصورة لعباده، وذلك في إشارة واضحة لآية سورة النور: الله نور السموات والأرض، مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح، سورة النور، الآية رقم: 35، والتشبيه كما نلاحظ ضمني، ودفاع أبي تمام عن بيته الشعري وكأنه يقول: لا تثريب علي في ذلك ما دام القرآن الكريم قد ضرب التشبيه الأقل لنوره، حيث استطاع الشاعر في رده الحصيف أن يحوز على ثقة الخليفة العباسي، وتكتمل الرواية في التشويق عندما يأخذ الكندي الرقعة التي كان قد دوّن فيها القصيدة، ولا يجد فيها هذا الرد المفحم، فقال متفرسًا حول الشاعر أبي تمام: إن هذا الرجل لن يعيش طويلاً، لأنه ينحت من قلبه، وبالفعل توفي أبو تمام بعد هذه الحادثة بشهر، وقيل بأربعين يوماً كما تذكر الحكايا في التراث العربي .
نعود إلى إبداعية البردوني، فهناك تقاطع تشابهي في ظروف الحياة بين الشاعرين، وقد وعاها البردوني جيداً، ووظفها ضمن قصيدته ببراعة شديدة ، وأعني أن البردوني كان يرى ( البؤس ) هو نقطة التقاطع بينه وبين أبي تمام:
كانت بلادك رحلاً ظهر ناجية
أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
ويصف البردوني بؤسه الشخصي:
لكن أنا راحل في غير ما سفر
رحلي دمي، أمتطي ناري وأغترب
قبري ومأساة ميلادي على كتفي
وحولي العدم المنفوخ والصخب
ثم يعود لمأساة وبؤس أبي تمام:
وتجتدي كل لص مترف هبة
وأنت تعطيه شعراً فوق ما يهب
شرقت، غربت، من وال إلى
ملك يحثك الفقر أو يقتادك الطلب
وهكذا، حتى يختم البردوني رائعته حول الموصل، المكان أو الجغرافيا التي جمعت إبداع الشاعرين معاً، وبينهما لا شك عدة القرون متعاقبة، ويخاطب روح صديقه الشاعر:
طوَفت حتى وصلت الموصل انطفأت
فيك الأماني ولم يشبع لها أرب
لكن موت المجيد الفذ يبدؤه
ولادة من صباها ترضع الحقب