فضة حامد العنزي
أمي.. هاأنذا بينَ فِكرٍ وحِسٍّ لا تغادرينني، وفي كل صلاة لا أنساكِ، وبين كلام ودعاء لا تغيب ذكراكِ، وفي عمق الليل تمرّين في خاطري كعَبَق.
إني أتألّم لفقدكِ أمي، وأنا وحيدة وحزينة، فعندما يُبكيني أمرٌ؛ أذهب إلى غرفتكِ فلا أجدكِ، وأعود لغرفتي بخُطًى متثاقلةٍ، وتمرُّ الساعات وأنا في مكاني ولا تأتينني؛ حقًّا أصبحتُ وحيدةً دُونَكِ أمّي.. دون حضنكِ.. دون كلامكِ.. دون حِسِّكِ وقربكِ.. دون مساعدتكِ.. دون نور وجهكِ ودون بشاشة طبعكِ وجمال أخلاقكِ ورُقيِّ تعاملكِ وحلاوة لسانكِ وحسن تواضعكِ.. دون ودون أشياء كثيرة!
ولأن أمي كانت تحب ابتسامتي سأبتسم -لله-، وسأزهر وسأفوح عطرًا وسأثمر خيرًا وسأقدّم إحسانًا ونفعًا.. هكذا أحبت أمي أن تراني.. وكانت أيضًا تحب أن تراني سعيدة وفي خير وعافية ورزق وسرور دائم.. كانت تخشى عليَّ الأذى، وترأف بي من برودة الشتاء، وتحنّ عليّ عندما أغيب، وتحتويني عندما أحكي، وتضمّني عندما أبكي، وتفقدني عندما أطيل البعد، وتساعدني عندما أحتاج شيئًا.. وعلى الرغم من ذلك كله وأكثر؛ وبالمختصر: هي لا تحبّ أن تراني حزينة؛ فرحِمكِ الله رحمةً واسعةً.. أمّي.
فهاأنذا ابتسم أمي؛ فالحزن الدائم لا يليق بابنتك، والوجه العبوس لا يصلح لي، واليأس ليس من صفات الصابرين، ولا الضجر من أخلاق المؤمنين، ولا الغضب يليق بوجه السماحة والأناة، ولا الامتعاض يناسب الفم الضحوك، ولا البذاءة دأب ابنتكِ، ولا الشر نتاج تربيتكِ ولا غرس يديكِ الطاهرتين الخيرتين الطيبتين عندما كنتُ طفلة وترعرعتُ في حِضنكِ المريح.. والأرض في وطني ترحّب بي مساحاتها كربيع يسعدني بممشاي وأبلّلها كمطر لتنتفع.
وهاأنذا أعيش بَعدَكِ أمي الحياةَ، ورجائي بالله وخوفي منه جناحاي في الطريق الذي تحفُّه رحمات ربي، وتتولاني فيه رعايته سبحانه وتعالى.. ومهما تعترض لي من شدة فبالله تزول وبالله تصغر وتذهب بعيدًا عني، وفي مرات نتصارع أنا والهم فأهزمه ليقيني بالله وأن الفرج حاصل من الكريم القادر سبحانه العظيم الرحمن الرحيم الودود.
وهاأنذا أعلم أن ربي الله الواحد الأحد الصمد الملك لن يتركني حزينةً وخدّي مبلَّلٌ بدموع الخذلان، لن يتركني أبكي من أوجاع الحياة وأنا أصلّي وأقترب، لن يخذلني وأنا أطرق بابه بيد ترتجف وبقلب وَجِلٍ وعينين دامعتين، لن يخذلني وأنا أطرق بابه وأرجوه وقد أثقلتني الأوجاع وأنهكتني الأحداث المؤلمة الكثيرة، وأنا التي ترقُّ مشاعري جدًّا عند رؤية أمي، وعند إحساسي ببكائها، وكنت عند قراءة وجعها أقدم فورًا لمساعدتها ورعايتها حبًّا وبرًّا وسعادةً وعطاءً وحقًّا لها عليَّ.. رحمها الله.
إن من بعض الحلول لديَّ لذهاب الهم والحزن الدعاء بإخلاص والتوكل واليقين والخشوع في الصلوات والمواظبة عليها والجلسات للاسترخاء مع النفس والإبحار في الخيال المريح بعيدًا عن كل ما يكدّر الأجواء. كن بعيدًا عما يزعج نفسك، عما يقلق بالك، عما يشتّت تفكيرك، عمّا يفزع طمأنينتك، عمَّا يبهت ضحكتك، وعمن يسرق ابتسامتك غير مبالٍ بك. كن بعيدًا عن كل أمر أو شخص أقضَّ مضجعك لياليَ طِوالًا وأنت تتقلب متألمًا، والذي آلمك يعلم بألمك ولا يلتفت لك، وفي لياليه يغطُّ في نوم عميق.. كن بعيدًا عمن يستنزفك بلا رحمة، ولا يرأف ببكائك، ولا يقدر وضعك.. ابتعد عن مخالطة من يملؤك تشاؤمًا مرارًا بلا توقف عن فعله هذا، مما قد يؤثّر أو يغيّر في نظرتك المتفائلة، فإذا بك تصبح حزينًا حزنًا يؤثّر عليك في حياتك عند استمراره واستمرار ما يكدرك؛ فالحزن المستمر أو المتقطع بفترات قريبة يشكّل أمرين مزعجين دون إيجاد الحلول ودون القناعة والصبر ودون الرضا والاحتساب والتناسي ودون حسن الظن بالله أيضًا.. لذلك احذر السقوط أو التعثر بتتبع كل ما يحزنك ويؤلمك والجري وراء الأوهام في الحب والعلاقات أيضًا؛ وفي أمور الحياة ككل، وتجنَّبْ سوء الظن المتعب، فإن حصل ووقعت يومًا ما فانهض مجددًا، لا تيأس.. نعم؛ النفس البشرية تشعر وتحس وتتأثر وتعاني، لكنها تقوى بالله سبحانه ثم بمن يساندها حقيقةً بحب ووفاء وبذل وعطاء، لا أقوالاً دون أفعال تحمد وتؤكد صدقهم.
إن قلبي حقيقةً ما زال يحتاج أكثر من البهجات والأفراح والسعادات والآمال، وأيضًا أحتاج مراهم تعالجني وبلسمًا يضمدني، وعضدًا يسندني ومتَّكَأً يريحني؛ فبداخلي حزن وأحزان أودُّ رحيلها، وإن كان الحزن طاغيًا؛ وإن كان الحزن يتسرّب من داخلي إلى داخلي ويؤلمني؛ لا يهمُّ، سيزول بإذن الله، فلقد لجأت إلى الله وحده، وهو القادر سبحانه على كل شيء، وهذا الشيء يريحني كثيرًا؛ ويبهج قلبي من جديد؛ ويسقيه ويرمّمه ويسعده؛ ويخضرُّ مزهرًا متوكلًا متفائلًا.
والآن أقول لنفسي - وقولوا معي-: فلندع الآلام، ولندع الأوجاع، ففي الحياة متسع للبهجات والأفراح ومتسع للسعادات.. ولنركن الأوجاع والآلام جانبًا في مكان بعيد.. بعيد عن سعادتنا.. نحاول تناسيها وتجاهلها، فلا توجعْ نفسك بتذكرها، ولا تكوِّنْ أحقادًا من سنين ولَّتْ ولن تعود، ولا تجهد نفسك في فعل أفعال لا تلائم طيبتك والخير الذي بداخلك.. كن أنت أنت نقيًّا كريمًا معطاءً خيّرًا.. تعيش اليوم بحب وتأمل لغد مشرق وتبني من ماضيك أمجادًا؛ تستند على الحق بفضل الله؛ وترى الأنوار بنور الله بين يديك وفي قلبك وفي بصرك وفي كلك.. كن إنسانًا نقيًّا تقيًّا عالمًا متعلمًا وخلوقًا لا ترضى الكِبْر ولا سوء الأخلاق ولا غلظة القلب والطِّباع.. كن منشرحًا مؤنسًا، واترك الأحزان ولا تمشِ لدروبها الموحشة، ولا تطأ قدماك الطرق المقفرة من الرحمة.. كن رحيمًا بنفسك وبالناس.. كن باذرًا للخيرات تحب تراب الوطن وتعمر الديار وتصنع الأمجاد وتحقق النجاحات؛ مما يوصلك للمراتب العالية في دنياك وآخرتك.. كن حيث يكون المتسع واليسر والنفع والرحمة.. كن محسنًا لكل شيء.. كن مطيعًا لله ورسوله؛ لتفوز بإذن الله.. لا تدع المتسع والرحابة وتذهب للضيق والتشاؤم.. كن كذلك متفائلًا.. نعم؛ وانطلق للحياة بعزٍّ وبنشوة الفرح فيك؛ مستعينًا بالله؛ متوكلًا عليه؛ موقنًا بعونه وعنايته ورحمته ونصره -سبحانه وتعالى جلَّ جلاله- لك.