د. سامي بن عبدالله الدبيخي
يمكن لمدينة الرياض أن تستلهم من تجربة مدينة سيول (كوريا الجنوبية) منهجها وأسلوبها في معالجة «مشكلة الازدحامات المرورية» وتوفير الوصولية للسكان. فالمدينتان شهدتا نمواً عمرانياً سريعاً وتزايداً سكانياً متسارعاً ليتضاعف حوالي خمس مراتٍ خلال الخمسين سنة الماضية. فإذا كان حجم الرياض حالياً حوالي ثمانية ملايين ساكن فإن سيول تفوقها بأكثر من ثلاثة أضعاف (25.3 مليون). كما أنهما تتشاركان في نمط الشكل العمراني ذي المركز الأحادي، إلا أن سيول تخلت عنه مؤخراً، وهنا مربط الفرس.
تؤكد الدراسات أن الشكل العمراني الأحادي المركز Monocentric urban form له تأثير حاسم على أنماط الرحلات. وقد ذهب الباحثون في هذا عدة مذاهب فكرية. فهناك فريق اهتم بدراسة أهداف الرحلة (العمل أو التسوق)، وركز آخر على دراسة وسيلة الرحلة (السيارة، أو النقل العام، أو المشي)، واهتم ثالث بعوامل مقاومة الرحلة impedance (الزمن والمسافة والتكلفة والوصولية). أما فريق رابع فوجه تركيزه إلى استعمالات الأراضي (تخطيط الأحياء، الكثافة، التنوع، اختلاط الاستعمالات، التوازن بين الوظائف والمساكن)، وفضّل فريق خامس التعاطي مع طبيعة النمط/الشكل العمراني (توزيع الضواحي وأحادية المركز وتعدد المراكز)، وتعامل فريق سادس مع طبيعة البيانات وتفصيلاتها (بيانات مكانية وبيانات زمنية). ويكاد يكون هناك إجماع بين هؤلاء الباحثين على اختلاف مناهجهم وأدواتهم أن تركز الأعمال والوظائف في منطقة واحدة يتسبب في ظهور العديد من المشاكل: كالإفراط في الاعتماد على السيارة الخاصة، والاختناقات المرورية، وهدر الطاقة، وتلويث البيئة، مع ما ينتج عن ذلك من أمراض نفسية ومشاكل صحية واجتماعية واقتصادية.
لمواجهة كل هذه الحزمة من المشاكل والتحديات؛ تبنت سيول توليفة جمعت ما بين «تغيير الشكل العمراني وتخطيط النقل». فقد تم تغيير الشكل من خلال التطوير وفق مبدأ التخطيط المتضام ذي المراكز الفرعية المتعددة polycentricity لتشكل أحواضاً للأعمال وللوظائف غير بعيدة عن مناطق الإسكان أملاً في تحقيق توازن ما بين الوظائف والمساكن job/housing balance. أما من جانب تخطيط النقل؛ فقد عملت على تسهيل الوصولية واستخدام النقل العام الذي يوزع الرحلات على مختلف المراكز الفرعية بدل التركيز على مركز الأعمال القائم (CBD). وهذا ما أدى بالمحصلة لتقليص مسافة الرحلة وزمنها individual commuting distance and time. فقد نتج عن تغيير الشكل العمراني تغيير في طبيعة الرحلات اليومية ذاتها. أما التطوير وفق مبدأ اختلاط الاستعمالات وتمازجها وتحسين شبكة النقل العام ورفع الكثافة عن محاوره فقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في خفض زمن الرحلات اليومية خلال (15) سنة الماضية.
يقتضي مبدأ المراكز الفرعية المتعددة لا مركزية توزيع الوظائف وانتقالها إلى المراكز الفرعية. فقد أكدت الدراسات أنه كلما تباعدت المراكز الفرعية عن المركز الرئيس أو منطقة الأعمال المركزية (CBD) انخفض زمن الرحلات شريطة أن يكون هناك توازن بين عدد الوظائف والمساكن وتقاربهما job/housing proximity and balance. فوجود الوظائف والمساكن في ذات المنطقة co-location يؤدي لانخفاض زمن الرحلات في المدن الممتدة أفقياً ذات المراكز الفرعية والتي تنتشر فيها الوظائف والمساكن بكثافات منخفضة وتعتمد أساساً على التنقل بالسيارة كما هو الحال بالرياض وغيرها الكثير من المدن الأمريكية. ذلك أن تعدد المراكز مع لا مركزية الوظائف يتيح للشركات أن تتخذ مواقع لها على مقربة من موظفيها محققة ما يعرف بمبدأ التوازن ما بين الفرص الوظيفية والمساكن، بعيداً عن حدة الاختناقات المرورية حول مركز الأعمال الرئيس. فسلوكيات القائمين بالرحلات اليومية commuting behaviors تخضع لتوزيع الاستعمالات وشبكة الطرق ووسائط النقل والخصائص الاجتماعية والاقتصادية للسكان.
أعتقد أن سيول تمثِّل قصة نجاح ملهمة لمدينة كالرياض. فقد تبنت مخططاً متضاماً باستعمالات مختلطة والاعتماد أساساً على النقل العام بعدد كبير من قطارات الأنفاق وحافلات النقل السريعة وضوابط صارمة لاستعمالات الأراضي على رأسها نظام الأحزمة الخضراء. فخلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2016، زادت نسبة النساء اللواتي يقمن برحلات يومية من 13 % إلى 33 % وارتفعت نسبة الساكنين بشقق من 52 % إلى 60 %. في حين لم يزد متوسط زمن الرحلة سوى 10.5 % من 40.6 إلى 44.8 دقيقة فقط، وتقلصت حصة السيارة من 62 % إلى 53 % لتزيد حصة النقل العام من 37 % إلى 47 % على الرغم من تضاعف الدخل مرتين وزيادة عدد الوظائف بـ 16 % وانخفاض الكثافة السكنية بـ 17.4 %. فإذا كانت حصة الرحلات اليومية للمركز الرئيس قد انخفضت قليلاً من 6 % إلى 5 % فإنها ارتفعت للمراكز الفرعية من 7 % إلى 11 %. أما العمال فقد انخفض استخدامهم لسياراتهم من 56.8 % إلى 39 % في حين ارتفع استعمالهم لوسائل النقل العام بالحافلات وبقطارات الأنفاق من 17.5 % إلى 19.9 % ومن 25.8 % إلى 41.2 % على التوالي.
نافلة القول: إنّ تبني نمط التطوير بمبدأ المراكز المتعددة وبكثافات مرتفعة مع اختلاط الاستعمالات وربطها بوسائل نقل عام ذات سرعات عالية وتقاطر منتظم واعتمادية عالية عناصر أساسية لتخفيف الازدحامات والحد من الاختناقات المرورية ورفع كفاءة أداء «منظومة النقل» في المدينة لأنها تؤدي للا مركزية الوظائف وإعادة انتشارها على المراكز الفرعية وتوزيع السكان حول هذه المراكز مما يقلل من زمن الرحلات ومن مسافاتها. وهنا لا بد من التذكير بأنّ هذا لن يتم بين عشية وضحاها وإنّما من الضروري انتظار بعض الوقت حتى تعدل الشركات والمساكن من أماكن توزيعها ووجودها co-location؛ حتى تعدل نسبة الوظائف للمساكن في المراكز الفرعية وحولها. فمدينة سيول استغرقت حوالي 15 سنة لتعطي النتائج الواردة بالفقرة السابقة.