د. غالب محمد طه
مكة، وما أدراك ما بكة، تلك البقعة الطاهرة المباركة التي تشرفت بالقرآن تنزيلاً وعملاً وأحكاماً قبل ألف وأربعمائة عام، وبعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وجمع الكلمة والاتحاد والأخوّة.
أكد القرآن على أهمية الاتحاد والعمل يداً بيد من أجل قوة الإسلام والمسلمين وترابطهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الأمر في كثير من الأحاديث الدالة على نبز الفرقة والشتات، فالدين الذي حمل لواؤه أمراً بالائتلاف ووحدة صف المسلمين، وحذّر من الفرقة والاختلاف صادحاً بالحق حتى صارت الأمة الإسلامية يومها إخوانًا مُتوادِّين موحدي الكلمة دون اختلاف وبغضاء بينهم أو شحناء.
إذاً المكان هو مكة الأرض المباركة «أحب البلاد».
والزمان شهر رمضان أفضل الشهور عند الله عز وجل..
والحدث يحمل البشارة لجميع المسلمين بإعلان «وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» فما أطهره من مكان وما أجمله من شهر وما أنبله من حدث كيف لا والهدف من الحدث أن تكون «الوثيقة» مرجعية إسلامية يجتمع عليها علماء الأمة ورموزها من مختلف المذاهب الإسلامية، والسياق أن تكون الأمة المسلمة هي اليد العليا، لأنها صاحبة الرسالة المكلفة بإقامة العدل في الأرض.
ومكة كانت ولازالت وستظل أرض البشارات الإلهية، فهي اليوم مجدداً تستشعر أمر المسلمين، فتجمع حولها الفقهاء وممثلي المذاهب والطوائف الإسلامية والعلماء من شتى البقاع تحت رعايةٍ كريمةٍ من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ليضعوا مصفوفة إستراتيجية لبناء جسور بين المذاهب الإسلامية من أجل أمة موحدة وقوية لترسم المعالم المضيئة وتضع خارطة واضحة للإخاء والمحبة وتصنع جسوراً للعبور بين مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية لمواجهة التحديات وتكون مرجعاً يحكم العلاقات بين أبناء الدين الواحد.
إن اجتماع هذه الثلة المباركة من علمائنا الأجلاء أمر يدعو للتفائل بغدٍ مشرق للأمة الإسلامية، فهم صوت الحق والركن الركين القويم الذين يلجأ إليهم المسلمون لأمور الدين والدنيا إرشاداً وتوجيهاً، وتيسير ما صعب أمره، وتبيان المقصد من الشرائع لعامة المسلمين، فهذه الثلة المباركة تعلم أن التوصل للتقارب بين المذاهب الإسلامية سيزيد من فرص إظهار الهوية الإسلامية المعتدلة بوجهها الحقيقي ويعيد ذلك الزمان الذي كنا نسود فيه العالم، فهم يدركون بأن قوة الأمة الإسلامية في تماسكها ووحدتها يحقق مصلحة المسلمين فهم الأعلم منا بالحديث إياكُم والفُرقة، فالأمة الإسلامية لا زالت بخير، فأئمتها يجتمعون اليوم في شأن خير أمة أخرجت للناس، لإثراء المشهد العام بالتناصح والحكمة عبر أدب الحوار بعيداً عن الصدامات الفكرية واللغات المتشنجة، فالاختلاف والتنوع سنة من سنن الله تعالى.
والمذاهب الإسلامية باختلافها ينتظرها دور عظيم في توحيد كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فالأصل مشترك في كل المذاهب في الشهادتين وجميع أركان الإسلام وثوابته فما يجمع أكبر بكثير من الاختلاف.
جاء هذا المؤتمر العالمي ليبرز أهمية تعزيز التواصل والتفاهم بين مختلف المذاهب الإسلامية لتوحيد المسلمين وتقوية التعاون بينهم من خلال التواصل والحوار والتفاهم المشترك. والاتحاد ليس خياراً إستراتيجياً نلجأ إليه عند الضرورة، بل هو أصل من أصول الدين الكلية، وقاعدة من قواعده العظمى، وقد أتى هذا المؤتمر الجامع في وقت تحتاج فيه الأمة الإسلامية لتوحيد جهودها ومواقفها نبزاً للفرقة والشتات والصراع المذهبي لمواجهة تحدياتها وإظهار القيم السمحة للإسلام والمسلمين وتصحيح الصورة الذهنية التي رسخت وشوهت العالم الإسلامي، فالإسلام دين بناء وليس دين هدم، وإظهار صورته الحقيقية واجب يتطلب من الجميع مد قلوبهم وأياديهم بالمحبة والتواصل مع الآخر لإعادة تشكيل صورة الإسلام القائم على المحبة والانفتاح والعودة بالدين لجوهره القائم على منهج الوسطية والاعتدال.
إن رعاية السعودية لهذا المؤتمر تأتي متسقةً مع أدوارها ومواقفها التاريخية الواضحة والثابتة وتجسيداً لريادتها الروحية، تجاه قضايا العالم الإسلامي وسعيها المبارك في نشر التآخي ودعمها المتواصل لكل ما من شأنه يجمع ويوحّد شمل المسلمين، ولعل عملها المستمر في نشر التسامح وثقافة الاعتدال ونبذ الغلو والتطرف في الخطاب الديني، يؤكد عظيم دورها في خدمة الإسلام والمسلمين وجهودها في هذا الأمر ظاهرة وباهرة نلتمسها في كل مكان، فيالها من غاية عظيمة تعمل عليها بجدٍّ واجتهاد ولا تألو جهداً في أمر تنفيذها.
إن أجهزة الإعلام المختلفة ينتظرها اليوم تحدٍّ كبير في تجميع شمل الأمة، من خلال تصميم رسالة ذات خصوصية إعلامية تعمل على تجذير مفاهيم قيم الأخوة الإسلامية الحقة، والعمل على إسقاط كل الشعارات الطائفية وجعل الكلمة الطيبة أصلاً في الحوار، وتوحيد الرؤى ومواجهة الخطابات الهدامة والشعارات المذهبية والممارسات الطائفية والمتطرفة لبداية عهد جديد تسود فيه القيم السمحة.
وأختتم بأبيات الطغرائي:
كونوا جميعاً يا بنيَّ إِذا اعترى
خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماحُ إِذا اجتمعْنَ تكسراً
وإِذا افترقْنَ تكسرتْ أفرادا