خالد أحمد عثمان
في أعقاب العملية العسكرية التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 - أكتوبر - 2023، ضد بعض المستعمرات اليهودية المجاورة لقطاع غزة، شنت إسرائيل أعنف وأشرس حرب انتقامية ضد غزة ليس لها مثيل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي فقد بطشت بطش جبارين مسرفة في سفك الدماء وتدمير المنازل والمستشفيات والمنشآت والمرافق الحيوية ومستخدمة سلاح التجويع لإجبار سكان غزة على ترك ديارهم والرحيل إلى الخارج، ضاربة بذلك عرض الحائط جميع قواعد القانون الدولي الإنساني.
ومازالت هذه الحرب مستعرة تعرك أهل غزة عرك الرحى بثفالها، وسيظل جبين الإنسانية يندى من نتائجها وآثارها حيناً طويلاً جداً من الدهر.
إن لهذه الحرب الذميمة أبعاداً قانونية عديدة، ولكن أود أن أسلط في هذا المقال بعض الضوء على الجانب القانوني لرفض إسرائيل إنشاء دولة فلسطينية على الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967م.
لقد صاحب هذه الحرب تصاعد دعوات أمريكية وأوروبية إلى إنشاء دولة فلسطينية جنباً إلى جنب إسرائيل وأسوق على ذلك الأمثلة التالية:
1 - قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن (حل الدولتين لايزال هو المسار الصحيح لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي). ولمّح بايدن إلى أنه يتعين أن تكون الدولة الفلسطينية المراد إقامتها منزوعة السلاح لضمان أمن إسرائيل، ومبرراً فكرته بأنه (توجد دول في الأمم المتحدة لا تملك جيوشاً).
2 - صرح وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إن (بلاده ستنظر في الاعتراف بدولة فلسطينية للمساعدة في إنهاء الحرب مع إسرائيل) وأضاف (إن هذه الخطوة ستساعد في جعل حل الدولتين عملية لا رجعة فيها لإنهاء الحرب). وكان كاميرون قد قال قبل ذلك (إنه يجب أن نعطي سكان الضفة الغربية وقطاع غزة المنظور السياسي لطريق موثوق به إلى دولة فلسطينية ومستقبل جديد).
3 - صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلاً (إن الاعتراف بدولة فلسطين ليس من المحرمات في فرنسا). وصرح وزير الخارجية الفرنسي إن بلاده تتشاور مع الدول الأعضاء بمجلس الأمن لتقديم مشروع قرار للمجلس يشمل كل معايير حل الدولتين.
4 - قال مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنه يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يدعم المبادرة العربية التي تنص على قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن الاتحاد الأوروبي تلقى طلباً من دولتين أوروبيتين لبحث الاعتراف بدولة فلسطينية دون أن يسمهما.
ورفضت حكومة بنيامين نتنياهو قيام دولة فلسطينية رفضاً قاطعاً، وقال نتنياهو (إن إسرائيل لن ترضخ للضغوط لقبول دولة فلسطينية). ومن ناحية أخرى تمضي إسرائيل قدماً في تنفيذ خططها بإقامة المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية لجعل إنشاء دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً.
إن إسرائيل برفضها إقامة دولة فلسطينية قد نزعت عن نفسها (الشرعية الدولية) التي سوغت وجودها وتتمثل هذه الشرعية في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في عام 1947 بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. ولتوضيح ذلك أجد من المناسب أن أعيد ما قلته في مقالات سابقة حول هذه الموضوع وذلك على النحو التالي:
أولاً: إذا تجاوزنا الحقيقة التاريخية بأن اليهود الغزاة أسسوا إسرائيل بالقوة والإرهاب في فلسطين، التي تعد إقليماً عربياً، وأنه لا توجد مشروعية قانونية صحيحة لحيازة إسرائيل هذا الإقليم العربي وممارسة السيادة عليه. وسايرنا منطق القبول بالأمر الواقع، فإنه يمكن القول إن حدود إسرائيل قد تم تحديدها على نحو صريح في الرسالة التي وجهتها أول حكومة إسرائيلية إلى حكومة الولايات المتحدة بتاريخ 14-5-1948، حيث أقرت فيها بأن إقليمها ينحصر في النطاق الذي حدده قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29-11-1947 الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، واعترفت الولايات المتحدة بإسرائيل على هذا الأساس، كما أن إسرائيل لم تقبل في عضوية هيئة الأمم المتحدة إلا بعد تعهدها رسمياً بقبول قرارات هذه الهيئة، خصوصاً القرار الخاص بالتقسيم، وطبقاً لهذا القرار الذي قبلت به إسرائيل وأعلنت التزامها به واعترفت بموجبه الحكومة الأمريكية بدولة إسرائيل، فإن كل أرض احتلتها إسرائيل خارج ذلك النطاق الإقليمي تعد أرضاً محتلة، والاحتلال طبقاً لقواعد القانون الدولي يعد جريمة دولية ضد السلام».
ثانيا : قد يقول قائل إن الدول العربية رفضت في عام 1948 قرار التقسيم، وبالتالي فإن إسرائيل غير ملزمة بهذا القرار، والرد على ذلك أن القرار المذكور هو الذي أنشأ إسرائيل، وهي عندما أعلنت قبوله لم تشترط موافقتها على هذا القرار بقبول الطرف العربي، كما أن إسرائيل قبلت بموجبه عضواً في الأمم المتحدة واعترف بها على هذا الأساس عدد من دول العالم، يضاف إلى ذلك أن المستقر عليه في الفقه والقضاء الدوليين أن التصرف الذي يصدر بالإرادة المنفردة من أي دولة، سواء في صورة إعلان أو تصريح أو احتجاج أو إقرار لوضع معين أو رفضه، يعد مصدراً للحقوق والالتزامات على المستوى الدولي، شريطة أن يكون موضوع التصرف بالإرادة المنفردة مشروعاً وغير مخالف للقواعد القانونية الآمرة. وأكد القضاء الدولي في بعض أحكامه القوة الملزمة للتصرفات الصادرة عن الإرادة المنفردة، ونضرب على ذلك مثلاً حكم محكمة نورمبرج التي شكلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لمحاكمة قادة ألمانيا النازية، المتضمن الإشارة إلى أن ألمانيا التزمت بتصريحات حكومتها الخاصة بعزمها على احترام سلامة وحرمة بعض الدول مثل هولندا وبلجيكا، وأن انتهاك ألمانيا هذه الالتزامات يعتبر مخالفاً للقانون الدولي. وكذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي حلت محلها فيما بعد محكمة العدل الدولية، القاضي بلزومية الوعد الوارد في التصريح الذي أدلى به وزير خارجية النرويج بشأن احترام السيادة الدنماركية على جزيرة جرينلاند. وكذلك انتهت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر بتاريخ 2-12-1974 في قضيتي أستراليا ونيوزيلندا ضد فرنسا إلى أن التصريحات العلنية التي صدرت نيابة عن الحكومة الفرنسية التي وعدت فيها بوقف التجارب الذرية الفرنسية في جنوب المحيط الباسفيكي، تعتبر ملزمة لفرنسا، وترتيبا على ما سبق فإن إعلان إسرائيل عقب تأسيسها موافقتها على قرار التقسيم يعتبر ملزما لها. ومن جهة أخرى، قد يقول قائل إن منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيعها اتفاقيات أوسلو مع إسرائيل التي تم توقيع أولها سنة 1993، قبلت التنازل عن قرار تقسيم فلسطين، وقبلت قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 سنة 1967 كأساس للتسوية النهائية. ونرد على ذلك بأن اتفاقيات أوسلو في تقدير عديد من فقهاء القانون الدولي تعد باطلة، لأنها غير متكافئة وتتعارض مع قرارات الأمم المتحدة بشأن قضية فلسطين، التي تؤكد حقوق الشعب الفلسطني غير القابلة للتصرف، ولا سيما حقه في تقرير مصيره دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنية، وحق اللاجئين الفلسطينيين غير القابل للتصرف في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها، وغير ذلك من الحقوق الأخرى. يضاف إلى ذلك أن تلك الاتفاقيات أبرمت تحت وطأة الإكراه، فبموجب المادة 52 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات سنة 1969 تكون المعاهدة باطلة بطلاناً مطلقاً إذا تم إبرامها كأثر للجوء إلى القوة أو التهديد بها أو الإخلال بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ويقتصر الإكراه وفق اتفاقية فيينا على الإكراه العسكري، ولا شك أن منظمة التحرير وقعت اتفاقيات أوسلو تحت إكراه الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأياً كان الوضع القانوني لتلك الاتفاقيات التي أذعنت لها منظمة التحرير الفلسطينية، فإن شارون عندما وصل إلى الحكم سنة 2001 أنهى مفعولها عن طريق الامتناع عن تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية بموجبها، وإقامة الجدار الفاصل داخل الضفة الغربية وحول القدس، بهدف ترسيم الحدود بين إسرائيل والفلسطينيين بحجة احتياجاتها الأمنية، الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر في 9-7-2004، أنه يتعارض مع قواعد القانون الدولي، ويعد إخلالاً بالتزامات إسرائيل الدولية، ومع ذلك استمرت إسرائيل في استكمال تشييد هذا الجدار. وأكد موشيه يعالون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي «آنذاك» سقوط اتفاقيات أوسلو، حيث قال أن اتفاقيات أوسلو لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه. ويتضح مما تقدم أن شرعية وجود وبقاء إسرائيل مرهونة بالتزامها بقرار التقسيم القاضي بوجود دولتين عربية ويهودية وتبعاً لذلك فإنه ليس من حق إسرائيل الاعتراض على إنشاء دولة فلسطينية، ومن ناحية أخرى إن قبول الفلسطينيين بإقامة دولتهم على الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967 (أي الضفة الغربية وقطاع غزة) يعني في الواقع تنازلهم عن جزء من إقليم دولتهم الذي حدده قرار التقسيم. فهذا القرار خصص للفلسطينيين (44%) من مساحة فلسطين بينما مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة تمثل نحو (21%) من مساحة فلسطين الاجمالية.
والأنكى أن إسرائيل لا ترفض حل الدولتين فحسب بل ترفض أيضاً حل الدولة الواحدة ثنائية القومية التي يتمتع فيها السكان العرب واليهود بحقوق مواطنة ومتساوية دون إي تمييز على أساس العرق أو الدين، فقادة إسرائيل يرفضون هذا الحل لأنه يتعارض مع عقيدتهم العنصرية وينهي فكرة دولة اليهود النقية، ولذلك فالحل عندهم هو تهجير الفلسطينيين طوعاً أو قسراً إلى خارج بلادهم.
إن انسداد أفق تسوية القضية الفلسطينية سواء بحل الدولة الواحدة أو حل الدولتين لا يترك للفلسطينيين سوى خيار واحد يقره القانون الدولي وهو المقاومة والكفاح بجميع الوسائل المتاحة لتقرير مصيرهم واسترداد حقوقهم المشروعة وتحرير بلادهم من أبشع احتلال تشهده الإنسانية في وقتنا الحاضر.