د. مشبب بن سعيد بن ظويفر
في الكثير من الظروف والمواقف الاجتماعية قد تدفع الفرد البعد عن منطق العقلانية والاعتماد على العاطفة في اتخاذ العديد من القرارات، ولعل أبرز الأدلة لذلك القضايا التي تتطلب منا التضحية لصالح من نحب في أنها غير قائمة على أساس موضوعي بقدر ما كانت قائمة على المشاعر التي تعود في أصولها لأسباب عاطفية على سبيل المثال المحسوبية أو ما يسمى بالواسطة. ناهيك عن التعصب بكافة أنماطه وأشكاله. وحتماً نقر بأن الواسطة وحتى التعصب يعتبران أحد أشكال السلوك المنحرف لمسار المعايير المجتمعية التي تتميّز بدرجةٍ عاليةٍ من النوعيّة، بالرغم من أنه لا يُمكن للانحراف السلوكي أو المخالفة أو حتى الجرم الكبير أنْ تكون قضية جدلية إلّا بوجود قيمة تحترمها الجماعة بغض النظر عن مخالفتها للقانون والعرف وحتى معظم الحالات الدين، فلماذا؟، كونها تواجه تضاداً من قِبل الآخرين من العقلانيين الذين يجاملون ذلك الفعل الاجتماعي للقيمة المجتمعية تجاه الأشخاص الذين لا يحترمونها. مع علمنا بأن علم الجريمة يهتم بمنع حدوث السلوك الإجرامي بالتركيز على معرفة طبيعته وأسبابه، وعواقبه الاجتماعية، ومن ثم صياغة الآلية لكيفية السيطرة عليه وإصلاحه، بمثابة إنه مجال متعدد من التخصصات البينية في كل العلوم السلوكية والاجتماعية، والفلسفية والطبية وعلم الأحياء والقانون والدين.
فمن الجانب الاجتماعي والأمني نجد أنه قد شهد علم الجريمة تحولاً من بداية 1900 إلى 2000 خلال مائة عام عبر مراحل: البحث، فالنظرية، ومن ثم نقطة التحوّل نحو تحديد تعريف لعلم الجريمة للتداول بين المنظمات الأكاديمية والعلمية والجنائية، ومن ثم عرف بأنه فعل أو امتناع عن فعل يخرق قواعد الضبط الاجتماعي. لكن مفهوم العاطفة يعّد بمثابة الاستعداد النفسي للشعور الانفعالي والوجداني عند القيام بممارسة الفعل السلوكي حيال شيء ما، أو شخص ما، أو جماعة ما، أو فكرة معينة قد تكون ذات انفعال، أو تصور، أو فعل؛ ومنها على سبيل المثال لا للحصر العواطف الدينية، أو الخُلُقية، أو الاجتماعية أو الغرائزية.
لذلك الجرم مفهوم والعاطفة مفهوم وكلاهما مركبان ينطلقان من منظور وتفسر علم الجريمة على من يرتكب سلوكاً إجرامياً، فنقول له: المجرم العاطفي، وهذا المنظور هو من جانب النظرية البيولوجية التي تراه الشخص الذي يرتكب سلوكاً مخالفاً تماماً لتوقعات الغير بسبب إما تكوين وراثي جيني أو بسبب ضعف في القوى العقلية أو بسبب عوامل عاطفية بحتة سواء بسبب الغيرة أو الخيانة أو حب أو كره أو غريزة ....إلخ.
حيث إن مفتي عام المملكة عبدالعزيز آل الشيخ أصدر فتوى شرعية حول الفرق بين الشفاعة الحسنة والواسطة، جاء نصه «إن الشفاعة الحسنة التي فيها مساعدة للإنسان للوصول إلى حقه وقضاء حاجته أو دفع الظلم عنه مشروع، أما الشفاعة السيئة فهي التوسط الذي يؤدي إلى الاعتداء على حقوق الآخرين أو الظلم لهم أو الضرر بالمصلحة العامة فذلك محرم شرعاً». وفي موقع العلامة ابن باز رحمه الله وضّح للناس الوساطة في الخير مبين، قول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تُؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء».
فالوساطة فيما حرَّم الله لا يجوز التوسط لإنسانٍ ويُعطى ما حرَّم الله عليه، قائلاً: الوساطة تختلف فإذا كانت في خيرٍ فهي مشروعة، وإن كانت فيما حرَّم الله فذلك لا يجوز، مؤكداً على الوسيلة حسب الغاية.
إن معظم المجتمعات المتباينة ثقافياً وعلمياً وحضارياً تشيع بها الوساطة والمحسوبيات لقضاء مصالحهم وتحقيق مآربهم، وقد تكون هذه الوساطة أو الشفاعة حسنة للوصول إلى أغراض مشروعة أو ضرورية، وقد تكون سيئة أو ضارَّة لإلحاقها أذىً أو ضرراً بمصالح الآخرين.
فالواسطة أو الشفاعة ما هي إلا غرائز أساسها العاطفة وقد تؤدي لجرم كبير نظراً لمساسها بالقوانين العدلية والإنصاف والمساواة التي ينبغي أن يتعامل الناس من خلالها سواء في نيل الوظائف أو في تحقيق الخدمات المقدمة. ولذلك نؤكد على ما عبَّر عنه القرآن الكريم بقول الله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (سورة النساء: 85). وبالتالي نجد أن الشفاعة قد تتعلق بالذنب لطلب الغفران، بينما الوساطة قد تتعلق بالمسعى المحمود، فإذا كانت مشروعة شملتها الحسنة، وإذا كانت محظورة شملتها السيئة. النبي صلى الله عليه وسلم قد رغب في الشفاعة الحسنة، وقال: «اشفعوا تؤجروا» لقضاء الحاجات، وليس في الحدود كالسرقة والحرابة والزنا والقذف وشرب الخمر..إلخ. إلا أن العامة من الأفراد قد يفهم الشفاعة أو الواسطة أو الكذب الذي وظف بين المتصالحين ذريعة لاستمراره على الكذب والتحايل دون أن يتعقل ويعرف ذنب الكاذب وغير ذلك من المفاهيم الكثيرة التي تأخذ أبعاداً مختلفة. إلا أن التنشئة والتربية والتدين والتعليم وغير ذلك من العوامل الاجتماعية الأخرى قد تلعب دوراً كبيراً في سلوك الفرد يصرف النظر عن الانتقاد الذي قد يوجه إليه لكونه قد استخدم العقل سلماً في تعاملاته وبتصرف ووعي محسوب. ومع الملاحظة مؤخراً بالرغم من وجود الأنظمة والقوانين والتشريعات بعض الممارسات تحت غطاء الشفاعة «المحسوبية» وبعبارة أخرى الواسطة التي ترتكب داخل أروقة المنظمات والدوائر وتمارس بسبب تكوين وراثي خاص أو عدم وعي أو بسبب عوامل عاطفية أو ثقافية أو بسبب تعصب مناطقي أو عرقي أو طائفي أو قبلي أو حتى الجنسية والجنس، تمارس داخل المنظومات وتلعب دوراً هاماً في التفاعلات اليومية لكونها متجذراً ثقافياً وتعود بأصولها لإرثها العاطفي محور نقاشنا، كالمحاباة للمعارف، وسوء استعمال السلطة لغير أهدافها، والتي نجزم حتماً بأنها عامل مؤثر وعائق لتشتيت الجهود المبذولة تنموياً للقطاع الذي تحصل به هذه الممارسات، بالرغم من أن هذه الممارسات السلوكية تعتبر انتهاكاً للقوانين المنظمة للمصالح العامة في المجتمع بكافة أنساقه، إضافة إلى إشغال المسؤولين في القيادات العليا، كما أن تكرار ممارسة هذا السلوك يعد هدراً للثروات وتبادلاً لمصالح عامة بترف يعتقد بأنه بريئ بصرف النظر عن الاعتداء على حقوق الآخرين بمخالفة ثقافة المنظمة ونظامها المتبع، وقد تتسبب في أخطاء تنظيمية لا تحمد عقباها بسبب عدم وجود الرقابة القانونية الرادعة تحت غطاء مثلاً قضاء حوائج الناس، ولا شك هذا إخلال بالواجبات الرسمية العامة وخيانة للأمانة واستعلال للنفوذ تحت سمات الفزعة وغيرها من المفاهيم، مما قد يتسبب بالمماطلة في الإنجاز للمهام والتأخير في مصالح الأفراد. قد نعزو هذا التصرف السلوكي إلى أمر التعصب أو الخيانة لأن التعصب مرتبط بالعديد من القضايا الموروثة وغير المنطقية بشخص معيّن أو عادة أو عرف مسيطر على العقل وبصيرته ومنعه من إدراك الحقائق، أو قد يكون على أساس ديني، أو سياسي، أو مهني، أو مناطقي، أو عرفي، أو حضاري، أو بدوي، أو جنسية، أو اللون، أو القرابة، أو الفكر، أو التخصص العلمي، والجنس، أو المذهب.
إن ممارسة هذا السلوك بدافع العاطفة بطرق مباشرة أو غير مباشرة في المنظومات، باعتباره نمطاً ونوعاً من أنواع الجرائم العاطفية التي لها آثار كبيرة في الحد من تمكين الكفاءات، وتضعف رضا الفرد العام عن أداء الأجهزة المجتمعية، والولاء بمفهومه العام. كما وأنه يعتبر تحجيماً وتهميشاً معاً، مما قد يخلق نظرة سوداوية نحو فقدان التوزيع العادل للفرص، وما ينتج عنه من الشعور بالإحباط واتباع مزالق أخرى قد لا تكون محسوبة.
إن الخلط بين رأس المال البشري الكفء وما دون منه يعد كارثة تنموية في مجال التطوير المادي والمعنوي، ناهيك عن الظهور للطبقية، والعزوف عن التعليم والتدريب، بسبب افتقار التخصص وتقسيم العمل، مما يؤدي إلى الشعور بافتقار العدالة واضمحلال النشاط والكفاح، هذا غير ضعف الانتماء، وضعف الأداء والإنتاجية في أي مجالٍ من مجالات الحياة مما يخلق زيادة في الفجوة الاقتصادية.
هذا النقاش ما هو إلا محاولة لسبر غور الموضوع لكي نبين غطاء قضايا التعصب وتبعاتها والواسطة وآثارها، والتي دوافعها العاطفة وما ينتج عنها من المخالفات في منظومات القطاعات خاصة وعامة، بهدف وضع الخطط التطويرية من قبل القيادات والمفكرين والعلماء والباحثين وفقاً للمبادرات التطويرية نحو تنمية مستدامة، مؤملين بأن هذا الطرح قد يفتح مجالاً للبحث العلمي والفكري للإسهام ببعض الحلول العلمية التي تساعد في رفع مستوى الوعي وتحقيقاً للعدالة وتطبيق مبدأ الحوكمة، والحفاظ على العنصر الهام «رأس المال الفكري» باعتباره محرك الإبداع للتنمية والثروة الحقيقية. أضيف إلى ما سبق تعزيز الطرق والإجراءات الإدارية والرقابية ومدى انعكاسها، كذلك غير ما توليه الحكومة جل اهتمامها من عناية خاصة بالمنظمات من خلال برامج التطوير والتنمية والحوكمية خصوصاً «فترة التحول 2030» التي تهدف أساساً إلى القضاء على دابر المحسوبية وتحقيقاً للعدالة بين الأفراد بعيداً عن الممارسات المخالفة للخطط والرؤى المرسومة في إعداد البرامج العلاجية والوقائية والتوعوية لكل المنظومات وفق نسق المجتمع الواحد عن طريق الإسهام بما يقدم من المبادرات والدراسات وبحوث المراكز البحثية العلمية وصناع القرار في القيادات العليا للحد من هجرة الكفاءات المتميزين بمهارات وخبرات قادرة على إدخال التعديلات والتغييرات الجوهرية، بأفكار جديدة وأساليب متطورة بفضل التحسين والابتكار المتواصل للمساهمة في زيادة القيمة الاقتصادية.