د. عبدالحكيم بن عبدالرحمن العواد
حَوَّامَة أو الحَقَاقِية: مجموعة أطفال، يطوفون على بيوت الجيران صباح آخر يوم من رمضان (التاسع والعشرون)؛ ليأخذوا ما أعدته لهم ربات البيوت من «عيديات» تدخل عليهم السرور قبيل انشغال أهليهم عنهم بعيد الفطر، في اليوم الذي يليه، وسميت الحوامة؛ لأن الأطفال يحومون (يطوفون) على البيوت كما يفعل الحمام.
وظهرت العيدية أول مرة في العصر الفاطمي؛ فكان الخليفة المعز لدين الله يدفعها للمسؤولين؛ كسباً لولائهم، وللرعية؛ للتوسعة عليهم، وعرفت آنذاك باسم التوسعة أو الرسوم؛ فكانت توزع فيها النقود والهدايا، للفقراء وقرّاء القرآن الكريم.
وحرص الفاطميون على توزيع «العيدية» مع كسوة العيد، وعندما كان الرعية يذهبون إلى قصر الخليفة صباح يوم العيد للتهنئة، كان الخليفة ينثر عليهم الدراهم والدنانير الذهبية من منظرته، بأعلى أحد أبواب قصر الخلافة.
وبانتهاء الحكم الفاطمي، انتهت هذه العادة عند الحكام، وتحولت لتصبح مظهراً اجتماعياً لدى الأسر، توزع فيها الحلوى على الصغار، الذين لا يطيقون الانتظار في بيوتهم لتوزع عليهم، بل يذهبون في جماعات ليجمعوها بأنفسهم.
والظاهر أن هذه العادة قدمت من مصر إلى الحجاز؛ حيث كان الفاطميون هم من يعين شريف مكة في منصبه، ويرسلون سنوياً الهدايا والهبات؛ لتوزع في الحرمين في العيدين.
وتطورت هذه العادة لدى النجديين، من كونها هدايا يوزعها الحجاج على الأطفال بعد قدومهم من الحج، لتصبح عادة تسبق عيد الفطر بيوم، تكافِئ بها الأسرةُ الصغارَ، نظير التزامهم بالصيام، حتى وإن كان متقطعاً خلال شهر رمضان.
ففي صبيحة يوم التاسع والعشرين من رمضان، يلبس الأطفال (أولاداً وبناتٍ) ملابسهم الجديدة، وترى الصغيرات وقد لبسن الفساتين والبخانق والأحذية اللمّاعة وربطن ضفائرهن بالشرائط البيضاء والبُكَل، فيما الميسورات منهن يضعن هامة معدنية بلون ذهبي على مقدمة رؤوسهن، وفي يد كل منهن شنطة لامعة؛ لتضع فيها العيدية.
بينما لبس الأولاد ثيابهم ونعالهم الجديدة، وتزينت رؤوسهم بطواقي الزري، وبيد كل منهم كيس بلاستيكي؛ ليضع فيه عيديته، وفي الليلة التي تسبق الحوامة، يجتمع الأطفال النابهون؛ ليحددوا بيوت الميسورين التي ينبغي أن يسبقوا غيرهم إليها، قبل أن تداهمها جماعات الحوامين.
وتتنوع العيديات التي تقدمها الجَدة أو ربة المنزل حينما يطرق الأطفال بابها، وهم يرددون:
أبي عيدي.. عادت عليكم.. جعل الفقر ما يجيكم.. ولا يكسر رجليكم.
فتعطيهم القريض أو القضوم (حب الحُمُّص) وتارة يكون مغطى بطبقة من السّكر، ويسمى في هذه الحالة الملَبَّس، أو بيض الصَّعَو، إضافة إلى كُسر الحلوى الملونة شديدة الصلابة، والفول السوداني (السيبال أو السيسبان) ودوائر البرميت (سكر ملون ذو نكهة) وقد تخالطها قطع من الأقط، والحلوى الشبيهة بنواة التمر، وتسمى حلاوة الطحينية، وحلاوة عسل النحل وحلاوة البقر، وربما تخلل ذلك حب الفصفص أيضاً، والعلوك بأنواعها، وبعض الأسر الميسورة لا توزع هذه الأنواع، بل تستعيض عنها بريالات وأنواع من البساكيت الفاخرة، وهذه البيوت هي المستهدفة من خُطط كتيبة فرسان الحوامين آنفة الذكر!
أما الأولاد الكبار الذين خطت شواربهم، وباتوا يخجلون من مصاحبة الصغار إلى البيوت، مما قد يعرضهم للنهر والتوبيخ من الكبار، أو السخرية من أقرانهم، فإنهم يقفون في العاير (زاوية السكة) ويترصدون الحَوَّامة حينما يعودون بطاناُ محملين بالعيديات، ويفرضون على هؤلاء المساكين رسوم مرور، يسمونها القمرق (الجمرك) ومن يسمع جملة «دِق القمرق» ولا يدفع! يؤخذ منه القمرق عنوة، وربما تحلَّى بعض الفتوات بأخلاق الفرسان؛ فيسمح للصغيرات بالعبور دون أن يقمرقهن!
كانت هذه حال الأطفال مع الحوامة قبل عقود مضت، وبلا شك، فإن الكبار يعرفون هذه التفاصيل وغيرها؛ كونهم عاصروها، وحاموا على البيوت في صغرهم، ولهم معها ذكريات، ولكن كيف كانت حال من سبقوا أجيالنا من الأطفال قبل توحيد المملكة، كأمثال أبي، رحمه الله (1343-1431هـ) الذي عاش طفولته الأولى، في ذلك الزمن، فهل كانت عادة الحوامة معروفة لديهم، وماذا كان يقدم لهم فيها، في ظل شح الحلوى آنذاك؟
حدثني والدي، أن الحوامة كانت من مظاهر عيد الصغار في وقتهم أيضاً، وقد توارثوها من أجدادهم؛ ما يدل على أنها عادة اجتماعية قديمة، ولا تختلف عن حوامة جيلنا إلا في نوع ما يقدم للصغار من عيديات، فقد كانت الحلوى آنذاك شبه معدومة في مجتمعهم؛ واستعاضت الأسر عنها بالزبيب والأقط، وهذا فيما يخص الأسر الميسورة، أما تلك التي لا تستطيع شراء الزبيب والأقط، فإنها تقدم للصغار أصنافاً بديلة!
ومن ذلك أنهم يقطفون سنابل حبوب القمح أو الشعير أو الدخن وهي لا تزال خضراء، ثم يشوونها على النار حتى تتحمص، ثم يفركونها فتتساقط منها الحبات، ويقدمونها كعيدية للأطفال، الذين يعجبهم قرضها بنكهة الشواء، ويسمى السنبل المشوي أو المحموس (السِّهْو)، ومن ليس لديه سنابل فإنه يشتريها أو يطلبها من الفلاح، وتسمى قبضة السنابل (كَرّة)، فيطلب أحدهم من الفلاح عشر كَرّات أو عشرين، حسب حاجته.
وتبيع بعض نساء الدرعية - والحديث لا زال لوالدي - السهو (الحب المشوي) وغيره مما سيأتي الحديث عنه، على الأسر، كما يبيع أصحاب المتاجر الحلوى الآن.
وتقدم بعض الأسر حب الهبيد؛ الشبيه بالفصفص، إلا أنه أصغر منه؛ وتستخرج حبوبه من حَدَج الشَّري (الحنظل) بعد أن تنقع في الماء مدة طويلة؛ لتخف مرارتها، ثم تطبخ في ماء مملح، فتنفلق الحبات ويستساغ أكلها، بعد تجفيفها.
واستخراج حب الهبيد من الحَدَج (ثمار الحنظل) معروف من زمن الجاهلية؛ حيث ورد في معلقة امرئ القيس قوله:
كأني غَداة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَلّوا
لدى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حنظلِ
وناقف الحنظل: الذي يشق ثمار الحنظل؛ ليستخرج منها حب الهبيد.
ويقول حميدان الشويعر (القرن الثاني عشر):
حاطٍ حرمتين جعل ما هو بزين
جعل تالي زمانه يهبد الشري
كما تقدم الأسر في العيديات بذور القرع المصري (اليقطين الأصفر) بعد أن يستخرج من اليقطينة ويغسل، ويحمس مع الملح؛ فيصبح طعمه لذيذاً بنكهة الشواء.
وفي وقتنا الحاضر تلاشت الحوامة، بعد أن انتقلت غالب المجتمعات من القرى للمدن، وضعفت الصلات بينها، ناهيك عن ارتفاع مداخيل الأسر، وتوفر الحلوى طوال السنة، خلاف ما كان سابقاً.
وقد أحسن بعض المهتمين بالتراث مؤخراً، حينما أحيوا هذه العادة الجميلة في بعض الحارات والتجمعات في الرياض وغيرها، ومنهم أهالي الدرعية.
** **
- باحث في التراث النجدي وتاريخ الدولة السعودية الأولى