د.علاء الدين محمد فوتنزي
المدخل
العيد مظهر من مظاهر الدين وشعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة التي تحمل بين طياتها وجنباتها معاني عديدة ودلالات قيمة تجسد آمال الأمة البعيدة وتطلعاتها المذهلة وأحلامها المديدة وطموحاتها العارمة، العيد كلمة محبوبة مرغوبة تعشقها الآذان ويتذوقها اللسان ويحبها الجنان، العيد رمز الفرحة والإخاء والصدق والنقاء والبذل والوفاء، العيد زائر حبيب وضيف قريب ونازل مهيب.
فالعيد في معناه الديني شكر لله على تمام العبادة، والعيد في معناه الإنساني يومٌ تلتقي فيه قوة الغني، وضعف الفقير على محبة ورحمة وعدالةٍ من وحي السماء، عُنوانُها الزكاةُ والإحسانُ والتوسعة، والعيد في معناه النفسي حد فاصل بين تقييد تخضع له النفس، وتَسكُن إليه الجوارح، وبين انطلاق تنفتح له اللهوات، وتتنبّه له الشهوات.
مفهوم العيد من حيث المعنى والمبنى
وإذا فحّصنا المصادر اللغوية فاحص الدقيق المتدقق نجد أن أصل العيد يرجع إلى العود، وقد ذكرت هذه المصادر أيضاً أن العود قد يكون للأفراح وقد يكون للأحزان، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: «العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه»، وقال ابنُ الأَعرابي: «سُمي العِيد عيداً لأَنه يعود كل سَنة بِفَرح مُجَدَّد». وقال ابنُ منظور: «العِيدُ كلُّ يوم فيه جَمْعٌ، واشتقاقه مِن عاد يَعُود، كأَنهم عادوا إِليه» وقيل: اشتقاقه مِن العادة لأَنهم اعتادوه، والجمع أَعياد؛ قيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيهاً بالعيد، جاء ذلك في تفسيره قوله تعالى {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، وعليه فالمعنى بهذا العيد هو اليوم الشريف، أي اجعله بإنزال المائدة لنا يوماً شريفاً لنا لأولنا وآخرنا.
العيد في الإسلام: مظاهره ومقاصده
يعد عيد الفطر جائزة من الله تعالى لعباده، يحتفل المسلمون في كل قُطر من أقطار العالم وفي كل مصر من الأمصار في اليوم الأول من شهر شوال بعيد الفطر، عيد رمضان المبارك، فبالنسبة لعيد الفطر؛ فإن الناس أدَّوْا فريضة من فرائض الإسلام وهي الصيام، فجعل لهم الله عزَّ وجلَّ يومَ عيد يفرحون فيه، ويفعلون من السرور واللعب المباح ما يكون فيه إظهار لهذا العيد، وشكر لله عزَّ وجلَّ على هذه النعمة، فيفرحون لأنهم أنهوا صيامهم؛ ولذا جعل الله تعالى عيد الفطر ليَفرح المسلم بنعمة مغفرة الذنوب ورفعِ الدرجات وزيادة الحسنات بعد هذا الموسم من الطاعات.
وهل هناك أي دين كدين الإسلام! الذي يجعل سعادة أتباعه مقصدًا من مقاصده، وأولوية من أولوياته، دين يدرك صنيع الفرحة في قلوب العباد فيجعل أحب الأعمال إلى الله «سرور تدخله على مسلم»، دين يصنف الناس يوم العرض الأكبر إلى شقي وسعيد، فالفرح ودوام السرور مقصدان يسعى إليهما الإسلام، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّر من صام رمضان بفرحتين؛ «إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»ويأتي بعد تلك المعايشة الحية لمظاهر الفرح الحق عيد المسلمين لتكتمل فرحتهم وتنتعش نفوسهم ويجدد نشاطهم، فيكبرون الله تعالى طاعةً لأمره وتعبيراً عن فرحتهم {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أما الأعياد، ففي مناسبتها دروس في إحياء الأمة ودورها في حمل مشروع يليق بمكانتها، ويرتفع بأثرها، ويرتقي بمنزلها، ومن مظاهر ذلك ومقاصده في العيد:
- الفرح بالعيد، ومن مظاهر الفرح لبس الثياب الجميلة، قال محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه «سبل السلام»: «يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد» وقد ورد عن الإمام علي رضي الله عنه في كشف خصوصية العيد واختصاصه قوله «إنما هو عيد لمن قبل الله صومه وشكر قيامه» وهي تؤكد تحولات مهمة في معنى العيد في الإسلام..
- وفي العيد يكبر الناس تلك التكبيرات المأثورة، التي تهز المشاعر، وتصنع في النفس معاني القوة، وتبني في الأمة معالم الوحدة، وروي «أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يخرج يوم الفطر فيكبّر، حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير».
- صلاة العيد؛ وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما»، فعن أم عطية رضي الله عنها، قالت: «أمَرَنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نُخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين».
- الدعاء للمسلمين والتذكير بهمومهم، وفي هذا اليوم المبارك، على كل مسلم أن يدعو لإخوانه المسلمين في كل مكان، بل يدعو للأحياء والأموات، إشعاراً بهذه الروحية العالية، بجسدية هذه الأمة وترابطها وتحابها وتعاطفها وتراحمها.
- الاستمتاع بالمباحات، واستخدام الفنون الجميلة، وتجنب الفنون القبيحة؛ عن أنَسٍ رضي الله عنه قال: «قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا، فقال: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِليّةِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ»، ولقد ورد أن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر، وعائشة رَضِيَ الله عنه تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملّت ورجعت، ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، على عائشة، رضي اللّه عنها، وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد».
زكاة الفطر: طهرة للصائم وإسعاد للفقير
ولئن كانت الصلاة هي العبادة الروحية التي تؤدي بالجسد، فإن الزكاة عبادة روحية أيضاً تؤدي بالمال، فتُنفق على مستحقيها الثمانية لكي يأمن بها حياة هؤلاء المحتاجين، ويرتبط الأغنياء بإخوانهم الفقراء بالمحبة والتعاطف، حيث قال في كتابه الكريم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة- 60)، والأصل في ذلك ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: «فرض رسول الله باب زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة».
وقَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَر - رحمه الله -: «أُضِيفَت الصَّدَقَةُ للفِطْرِ؛ لِكَونِهَا تَجِبُ بِالفِطْرِ مِن رَمَضَانَ»، إنها واحدة من عناوين الخير، في دفع الأنا عن النفس، والتقوقع حول الذات، لينطلق من قيود ذلك إلى رحاب نفع الآخرين، ليعم الخير، بين أبناء المجتمع، وعَن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ»،فقد أنذر الله عزَّ وجلَّ أولئك الذين لا يؤتون الزكاة إنذارا شديدا، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (34-35 التوبة) وأما الحكمة في تشريع الزكاة فهي:
- إن الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله يطهران النفس من الشح والبخل، وسيطرة حب المال على مشاعر الإنسان، ويزكيه بتوليد مشاعر الموادة، والمشاركة في إقالة العثرات، ودفع حاجة المحتاجين، أشار إلى ذلك قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة:103)، وفيها من المصالح للفرد والمجتمع ما يعرف في موضعه، ففرض الله تعالى من الصدقات حداً أدنى ألزم العباد به، وبين مقاديره، إذ لولا التقدير لفرط المفرط ولاعتدى المعتدي.
- الزكاة تدفع أصحاب الأموال المكنوزة دفعاً إلى إخراجها لتشترك في زيادة الحركة الاقتصادية، يشير إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» وقال عمر رضي الله عنه: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة».
- الزكاة تسد حاجة جهات المصارف الثمانية وبذلك تنتفي المفاسد الاجتماعية والخلقية الناشئة عن بقاء هذه الحاجات دون كفاية.
الخاتمة
نصل من كل ما تقدم إلى أن العيد يجدد حياة أفراد الأمَّة بمعانيها السامية وأهدافها النبيلة وأعمالها الجليلة التي تتمثَّل في صلة الوالدين والأرحام والأقارب وتدعم مبادئ التواصل بشتَّى طرقه وتغرس أسس التواضع والاحترام والتقدير بين أفراد الأمة، ما أحوجنا جميعا لهذه المناسبة العظيمة والشعيرة الجليلة إلى البسمة المشرقة وطلاقة الوجه وانشراح الصدر وأريحية الخلق ولطف الروح ولين العريكة، كما قال تعالى في محكم تنزيله «وَأمَّا بِنَعمَةِ رَبّك فَحدّث».
** **
- محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية وآدابها، كلية السنية العربية كاليكوت، الهند