أطلال كانت حية بأصحابها فماتت بموتهم، نعم حتى الجماد يموت بمجرد بُعد الإنسان عنها تظل حية من أنفاسهم وتدب الحياة من وقع أقدامهم وترد الصدى من أصواتهم وتتماسك بلمّ شملهم بها.
فعندما أنظر إلى أطلال الماضي لقريتي وعدد دورها المتجاورة وإلى مساحتها الشاسعة في نظرهم وإلى قوت يومهم من أراضيهم الزراعية فأذهب بمخيلتي مردوفاً بقصص الماضي عنهم فأراقبهم قبل بزوغ الفجر شتاءً أو صيفاً، فأرخي سمعي فأسمع ذكر الله والاستعانة بالله والتكبير والصلاة على النبي يتبعها أصوات ماملكوا من بهائم النعم فيختلط القطيع هذا بهذا، فتساق عند الغسق إلى مرعاها بينها أطفال لم يتجاوزوا بضع سنين وقوتهم شقفة خبز، أما الرجال والنساء فكل منهم بجهازه على ماملكوا من أرض لزرعها أو حصدها أو حرثها وقد تلحق الزوجة لتساعد تاركة طفلها لوحده فتعود أدراجها لتتفقده، يحل الغروب فيأتي الرعاة بالرعي وقد أنهكهم التعب فأذهب بمخيلتي مرة أخرى بواقع قصصهم إلى الضيف القادم إليهم.. فيطرق أحد البيوت كونه عابر سبيل لوجهةٍ ما لكي يبيت ويطفي جوعه وعند الفلق يكمل سيره داعياً ربه لمن استضافه.
فأذهب بمخيلتي مرة أخرى من ضوضاء الحاضر ومتقمصاً الماضي بالحاضر لأستمع إلى جلساتهم واجتماعهم وسمرهم.. هذا يتكلم وهذا يضحك وهذا ينصت وهذا يقاطع الحديت أنظر بمخيلتي إلى ملبسهم لم يتغير وإلى قدميهم التي اكتست صفة الحجر الصلد وإلى وجوههم التي ارتسمت بها آثار حياتهم فلو نطقت لقالت أموراً عجباً أما كفاهما فأصبحت كالأخدود للسقيا وأما قوامهم فقد غلب بها الجوع فلا أزكيهم ولا أذمهم فبينهم من ظلم وسرق وبينهم من أنصف الحق لمن انظلم فتتوالى الأيام على هذا الحال... لكن لو عبرت الهضاب ونطقت لقالت لي عبر فلان من هنا متزوداً بقليل من طعام... عبر لوجهة لا يعلم أين خطواته توصله فغاب أياماً أو سنيناً ثم يعود وقد لا يعود فيأتي خبر عنه لا يسر لكنهم حاربوا الجوع بقوة فأكلوا ورق الشجر وأكلوا ما حرم عليهم لكي يبقي جسده ينبض بالحياة.
ولو نطق الحجر لتكلم عن بصمات كفوف... كفوف نقشت عليها آثار الشقاء... كفوف أدمت من حرث الأرض...كفوف أصبحت كالصخرة... كفوف حز الحبال بها...
لكنهم رجال اعتصروا الحياة لكي يظلوا على قيد الحياة باتوا ليالي وليالي جياعاً وأكلوا من الجيف وهم يعلموا أنه محرم أكلوا الجلد للبهائم قاتلوا كالوحوش على لقمة العيش احتزموا قطعة حبل على بطونهم وتوزروا وتوكؤوا على عصي وعلوا الجبال والسهول قلبوا الحجر للبحث عن فريسة عندما شاهدوها تفر منهم... قد يغيب أياماً خلف سراب وجبال لا يعلم هل يأتي إلى أهله بغنيمة للعيش بها.
كانوا فقراء لكنهم حول بعض بسكناهم كانوا جياعاً لكنهم يعطون ما تملأ كفه من حب يفرحون بالضيف ويكرموه بما جادت به نفوسهم لكنهم يخافون من الضيف أن يقول عنهم لم يضيفوه فأين هم الآن...؟