أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
واستكمالاً للمعلومات السابقة الذكر، تُبرزُ الآيات بشكلٍ جليٍّ في مواضع عديدة من القرآن طبيعة الأرض الحيوية النشطة، وغناها بالأثقال التي تُلفظُ من باطنها بوساطة البراكين، أو تنساب من ذلك الباطن إلى السطح عبر الشقوق الصخرية، والصدوع، والانكسارات، والخسوف التي تصاحب العمليات التكتونية التي تحدث في أطراف القارات ذات التراكيب الصخرية الضعيفة وغير المستقرة جيولوجياً، حيث قال الله تعالى في هذا الصدد من سورة الطارق: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ 12)}، كما قال عز وجل في سورة الإسراء {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً 68)}، وقال أيضاً في سورة الزلزلة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)}.
كما أشارت الآيات في مواضع عديدة من القرآن إلى معلومات جيولوجية دقيقة أخرى تتعلق بنقصان الأرض من أطرافها نتيجة للطبيعة الجيوتكتونية النشطة لتلك الأطراف، وحدة عوامل التعرية المختلفة التي تتعرض لها وارتفاع معدلاتها، فقال تعالى في هذا الصدد في سورة الرعد: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}. كما قال عز وجل في السياق نفسه في سورة الأنبياء: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}. ولا شك أن ما ورد في الآيتين السابقتين يُعدُّ بكل تأكيدٍ سبقاً قرآنياً بيئياً عظيماً تتسق معه بشكل مُدهش نتائج الدراسات الجيولوجية، والجيومورفولوجية، والجيوفيزيائية المعاصرة التي تُجرى في أطراف القارات.
ج- السمات التكوينية للنظم البيئية البيدو- مورفولوجية:
بالإضافة إلى الاهتمام القرآني الكبير بجيولوجية الأرض وعملياتها الديناميكية التي عُرِضت في البند»ب “آنفاً، اهتمت الآيات القرآنية أيضاً بالسمات البيدو- مورفولوجية لكوكب الأرض ومنها التربة تحديداً التي وصفت في تلك الآيات ًوصفاً بيئياً بليغاً معجزاً غير مسبوق اتسقت معه أحدث المعارف والدراسات التطبيقية البيدولوجية وتحليلاتها الميكروجيومورفولوجية المعاصرة. ومصداقاً لذلك قال الله تعالى في هذا الصدد من سورة فصلت: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.
ولا شك أن اهتزاز التربة وانتفاخها حال نزول الماء عليها هو أمر بيدو- مورفولوجيٍ ميكروسكوبيٍ دقيقٍ لا يمكن تقريره إلا بأدق الأجهزة المختبرية، والقياسات الميدانية، وتقنيات النمذجة، والمحاكاة الحاسوبية المتقدمة التي لم تكن جميعها متاحة إبّان نزول القرآن قبل أربعة عشر قرناً ونيفاً.
د- السمات التكوينية للنظم البيئية الهيدرولوجية:
إضافة إلى الشواهد القرآنية الهيدرولوجية العديدة التي يتضمنها البند «خامساً» المذكور آنفاً، يشمل القرآن أيضاً معلوماتٍ غير مسبوقةٍ عن بعض الظواهر البحرية المحيطية والنهرية الهيدرو- بيئية الدقيقة التي اتسقت معها المعارف والعلوم البحتة والتطبيقية المعاصرة. ولعل من أبرز الأمثلة القرآنية على ذلك ما أورده الله عز وجل عن ظاهرة المرج بين مياه البحار والمحيطات تحديداً في الآيتين التاليتين من سورة الرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20)}. وقد رُصدت هذه الظاهرة وشُوهدت فعلاً في عدّة مواقع في العالم منها على سبيل المثال لا الحصر نطاقات التقاء: مياه البحر الأبيض المتوسّط بالمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق، ومياه المحيط الهادي بالمحيط الأطلسي في جنوب أمريكا الجنوبية، ومياه المحيط الأطلسي بالمحيط الهندي في جنوب إفريقيا، ومياه البحر الأبيض المتوسّط بالبحر الأسود في مضيق البوسفور، ومياه البحر الأحمر بالمحيط الهندي في مضيق باب المندب. ولا يقتصر حدوث المرج، كما أشير إلى ذلك في الآية السابقة، على البيئات البحرية فقط، وإنما يحدث أيضاً في النطاقات التي تلتقي فيها أنهار القارات العذبة الفرات بمياه البحار المالحة الأجاج كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، في بعض أنهار قارة أمريكا الشمالية التي تواصل مسيرتها في مياه المحيط عدة كيلو مترات دون أن تختلط مياههما وذلك مصداقاً لقوله تعالى في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)}. كما يحدث هذا النوع من المرج عند التقاء النيلين الأبيض والأزرق في الخرطوم وفي العديد من جهات العالم الأخرى كتركيا والهند على سبيل المثال لا الحصر. ولقد قال عز وجل في شأن هذه الظاهرة البيئية الفريدة من سورة النمل: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61).
هـ - السمات التكوينية للنظم البيئية الأحيائية:
لقد حظي الجانب الأحيائي في القرآن بنصيب كبير من الآيات التي أبان الله فيها السمات البيئية الأحيائية لمختلف الكائنات الحية النباتية والحيوانية البرية والبحرية. ولعل من أول القضايا التي ينبغي إبرازها في هذا الصدد قضية أممية الكائنات الحية التي ذكرها الله تعالى في قوله التالي من سورة الأنعام: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}.
وحفظاً لحقوق هذه الكائنات واستدامتها، وتحقيق أنسب فرص الانتفاع العادلة بها، توعد الله تعالى بالعقاب كل من منع الثروة الحيوانية أو احتكرها وعطل انتفاع الناس بها كمورد بيئي حيوي هام، فقال وعز من قائل في سورة الأنعام أيضاً: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138)}.
إلى جانب السرد السابق ذكره أعلاه المتعلق بالأنظمة البيئية الطبيعية لكوكب الأرض في القرآن، لابد أن أختم هذا السرد بنماذج من السنة النبوية المطهرة الثرية بالشواهد الدالة على اهتمام النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالنظام البيئي لهذا الكوكب. فقد ثبت في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة». كما ثبت وفقاً لرواية أحمد في «مسنده والبخاري، في «الأدب المفرد» عن أنس رضى الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها». كما حث عليه الصلاة والسلام على إعمار الأرض فقال: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له». وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها: «من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها». وقد ورد في الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبلال بن رباح رضي الله عنه الذي اقتطعه الرسول صلى الله عليه وسلم أرضاً في العقيق: «إن رسول الله لم يقطعك لتحتجزه عن الناس، وإنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي».
وحفاظاً على الثروة الحيوانية واستدامة نفعها، نهى عليه أفضل الصلاة والتسليم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن ذبح الشاة الحلوب فقال صلى الله عليه وسلم: «وإياك والحلوب» وذلك لأن في ذبحها منع الناس عن الانتفاع بلبنها، وهلاك نسلها.
كما حذر عليه الصلاة والسلام من قتل العصافير عبثاً حفظاً لحقوق هذه الكائنات وحمايتها من الانقراض فقال: «من قتل عصفوراً عبثاً، عج إلى الله يوم القيامة يقول يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعةً» أخرجه ابن حبان في صحيحه. كما أمر عليه الصلاة والسلام بعدم الاسراف في الماء ولو في الوضوء والاغتسال ورفع الحدث والجنابة فقال في الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجه وابوداوود: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء».
وحفاظاً على صحة الماء، ونقائه، وطهارته، وعدم تلويثه قال عليه أفضل الصلاة والتسليم في الحديث الذي أخرجه وأبوداوود وابن حبان: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة «مما يعنى سلامة انسحاب هذا الأمر قياساً على تحريم كل أنواع الملوثات المائية التي تلقى في عصرنا الحالي في مياه البحار والمحيطات والبحيرات والانهار والغدران.