د. تنيضب الفايدي
لقدوم العيد مظاهر، ومن أهم مظاهره في الماضي مدفع العيد، فلا يقتصر استخدامه على دخول شهر رمضان وإعلان موعدي الإفطار والسحور، بل يمتد إلى الإعلام عن حلول العيد، فمدفع العيد إعلان وإخبار بأن اليوم يوم عيد، وسماع صوته كان فرحة للصغار وذكرى للكبار، فالمدفع له ارتباط وثيق بالعيد؛ لأن له قيمة كبيرة بين الناس قبل اتساع المدينة في زمن لم تتوافر فيه وسائل الإعلام الحالي، وعادة ما يوضع (مدفع العيد) في موقع مرتفع، وفي المدينة المنورة يطلق المدفع من موقعين، الموقع الأول: قمة جبل سلع، وقد يغطي صوت المدفع المدينة أي: الحرم والحارات والأحوشة التي تحيط به، أما الموقع الآخر فهو بالقرب من قلعة قباء حيث يغطي صوته قباء وما حولها؛ لأنها - أي: حارة قباء وما حولها - كانت تفصلها مسافة عن المدينة المنورة، وكان هذان الموقعان كافيين لأهل المدينة قبل اتساعها، ويعلن صوت المدفع قدوم رمضان كما يعلن وقت الإفطار والسحور، وكذلك قدوم العيد، وللمدفع ذكريات لأهالي المدينة لاتنسى ولاسيّما الأطفال حيث تشكل فرق منهم في الأحوشة (والحوش عبارة عن حارة صغيرة تتكون من عدة منازل لا تقل عن ثلاثة وقد تصل إلى عشرين منزلاً) وكذا الحارات وتنشد هذه الفرق أناشيد حبيبة إلى النفس ترحّب بقدوم العيد، وكان صوت المدفع مظهراً من المظاهر الخاصة برمضان يشترك في سماعه جميع أهل المدينة وهذا الصوت أي: صوت المدفع له وقع خاص، وهذا الوقع الخاص أصبح ذكرى لكلّ فرد من أهالي المدينة لأنه يرتبط بذكريات النسيج الاجتماعي الموحّد والعلاقات المترابطة بين الجيران وأبنائهم وبين أحياء المدينة (جمع حي)، حيث يشكّل سكان المدينة رابطة واحدة ولعلّ صوت المدفع يوثق هذه الرابطة بالتآلف والمحبة وتفقد الجيران ومن هم في حاجة إلى المساعدة، كما أن صوته أي: المدفع إشارة إلى إعلان الفرح وبدء الأناشيد من قبل الأطفال، ولاسيّما في الأعياد خاصةً حيث ينشدون:
جابوه ما جابوه
وِلْد العِرِّي طَهَّرُوه
فانوس الحوش علّقوه
إتريك الحارة ولَّعُوه
أهلاً العيد أهلاً العيد
أهلاً العيد بقدومك أهلاً
نوّرتَ حارتنا أهلاً وسهلاً
(الإتريك والفانوس هما وسائل الإضاءة قديماً، ولاسيّما في حارات المدينة حيث يضاء الإتريك وهو أكثر نوراً من الفانوس، والفانوس وسيلة إضاءة أخرى في أحوشة المدينة، والحوش مجموعة منازل مترابطة متآلفة).
وكان إعلان العيد بصوت المدفع إيذاناً لبدء أيام الفرح لتوثيق العلاقة بين الجيران، والأحوشة والأزقة، وتزداد المحبة والوداد بينهم ولاسيّما بين أبنائهم وبناتهم، كما يزداد التعامل بينهم وثوقاً من حيث التكاتف والتكافل والإخاء، وتصبح كل حارّة كأنها أسرة واحدة.
وللعيد في المدينة: أريج العطر، وهمسة الحبّ، وعبق الزهر، أليست هي: الحبيبة والمحبة والمحببة والمحبوبة؟ أحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودعا بتحبيبها. أليست إذا ذكرت أقبلت القلوب إليها استجابة لدعائه لها -صلى الله عليه وسلم- « اللهم أقبل بقلوبهم» إنها تغذي ساكنها وزائرها بكلمات الحبّ؛ لأنها طابة وطيبة، حيث طاب هواؤها وتطيبت تربتها ويتحقق ذلك واقعاً ملموساً، وأنت تتجول في أرجائها.
ألم تر أني كلّ ما زرت زينباً
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
إنك ترى اخضرار أشجارها قبل الربيع، وتشعر بأن تراب أوديتها الذي تمشي عليه يختلف تماماً عن غيره.
ألا أن وادي الجزع أضحى ترابه
من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشيّة
تمشَّتْ وجرت في جوانبه بردا
تشعر في أيام العيد وأنت بها ببهجة العيد، ونشوة السعادة تشعر بأن الحبّ في قلبك أكبر من مجموع الحب في القلوب جميعاً، كما تشعر بأن الجميع يشاركك في هذا الحبّ، لأنك في بلدة أعطت للعيد بعداً: ها هم (الحبش) يرقصون برمامحهم وحرابهم فرحين آنسين في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتفرج وتفرح، العيد فرحة.
وهناك شواهد أخرى كثيرة تدل في مجموعها على إباحة اللهو واللعب في العيد، وفي غيره فقد ورد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «روحوا القلوب ساعة وساعة « وورد في صحيح مسلم وغيره من قوله -صلى الله عليه وسلم- « يا حنظلة ساعة وساعة». وقال عليّ رضي الله عنه « أجمّوا هذه القلوب، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان، وفي طيبة تعلن أصوات المدافع ليلة العيد، وتعمّ الفرحة والسرور الجميع ولاسيما إذا تم الإعلان في وقت قبل تمام الشهر ثلاثين يوماً ويخرج الجميع وخاصة الأطفال مرددين الأناشيد وكلمات الترحيب بالعيد السعيد، وتحرص العوائل في ليلة العيد إلى الإعداد ليوم العيد ولاسيما الملابس، وأنواع الحلوى والعطور، وما يقدم للزوار ولاسيما أن بيوت المدينة المنورة تكون مفتوحة لكل زائر، بل قد لايوجد من يستقبلهم لأن (الصالون) مفتوح للجميع.
وتجمعات العيد لها نظام، حيث مهرجان العيد وكان قبل عدة عقود يقام بباب الكومة، حيث توجد المراجيح باختلاف أنواعها وتصلح لمختلف الأعمار بدءاً بالمراجيح الكبيرة وانتهاء « بهزي مركب». إضافة إلى:
العربات المزركشة التي تجرها الأحصنة والبغال والحمير وهذه العربات يركبها الأطفال إلى مسافات ليست بعيدة وهي عربات جميلة مزركشة بمختلف الألوان، ويزيد الموقف جمالاً الأناشيد التي يرددها الأطفال.
أما الحمير في العيد فلها قصص مختلفة، وهذا الاختلاف يأتي في السعر «أي ما يدفع في المشوار الواحد» وذلك حسب المسافة، وحسب (زركشة) الحمار، وحسب أصل الحمار -، ونادراً ما تكون حمارة في مهرجان العيد، وذلك لأنها تشغل صاحبها في الدفاع عنها، من (معاكسات الحمير طبعاً) وكم أسقط الحمار راكبه في مهرجان العيد بسبب حركات تلك المعاكسات.
وعلى هامش مهرجان العيد هناك ألعاب شعبية يمارس بعضها وإن لم تكن له علاقة بالعيد ومنها: المزمار: وهي لعبة رجولية خطرة لها قوانين وقواعد وتتم ممارستها في العيد وبعض المناسبات الأخرى كالزواج، وتستخدم العصا والرقص على قرع الطبول حول النار وقد يتسبب الخطأ في هذه اللعبة إلى مشاجرات وإسالة الدماء ولاسيما بين « المشاكلة أو الفتوة «.
هناك مجموعة من الألعاب: وتكون إما على شكل مجموعات أو شخصين أو (طفلين) أو أكثر عند ممارستها، ومنها: (وبعضها لا علاقة له بالعيد وإنما ذكرت للتاريخ فقط).
الكُبوش، الحجاج، طبطب، الدَّحل (البرجوة) المزويقة (المرصاع) الكبت، طيري (الغميمة) عُصفر، اصطففت، الطاقية، (طاق.. طاق.. طاقية) البِربِر، أم الخمسة، التزقير، شيخ الأرض (وله اسم آخر) الطاب، الضاع، عظم وضاح (عظيم ضاح)..إلخ.
ومهرجان العيد وما يقدم فيه وإن كان أساساً للأطفال إلا أنه يجمع الناس على الحبّ والتآلف والتواصل والتراحم والتزاور والتقاء القلوب.
وكل عام وأنتم بخير.