د. أحمد محمد القزعل
الحياة نعمة كبرى منحها الله عزّ وجلّ لمخلوقاته، وهي حق مقدس محترم أقرته شرائع السماء، به تبدأ الحقوق وبنهايته تنعدم وتنتهي، وإن الاعتداء على أيّ فرد من أفراد البشرية يعدّ اعتداءً على النوع الإنساني كلّه، ولقد عنيت المبادئ الإسلامية بالأمن المجتمعي، وذلك باحترامها لحياة الانسان ومنع سفك الدماء وإزهاق الأرواح، لأن وجود هذه الأشياء تجعل المجتمع مضطربا أمنياً، وما يقابله هو الوسط المستقر أمنياً الذي يعمل فيه الناس على حماية أرواحهم وممتلكاتهم؛ لذلك فإن الشريعة الإسلامية حرمت جرائم القتل وعاقبت عليها، وجاءت لغرس الفضيلة ونزع الرذيلة والكثير من المواضع في القرآن الكريم تدل على ذلك، وحقّ الحياة في ظاهره حقّ خالص للإنسان، لكنّه في الحقيقة منحة وهبة من الله عزّ وجلّ، فهو الخالق البارئ الواهب المصوّر، وكلّ اعتداء على هذا الحقّ يعدّ جريمة كبرى في نظر الشرع الإسلامي. إذ حرّم الإسلام قتل النفس إلا بحقّ الله، فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ومن مظاهر القيم الإسلامية في حفظ الأمن المجتمعي أنها تحرم الانتحار وتبين عقوبته في الآخرة، ويقول تعالى:{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }، فالانتحار يشكل دائماً شكلاً من أشكال الخلل الأمني في المجتمع، فيجعل الناس قلقين على أنفسهم وأبنائهم وتضطرب المعايير في وجوده، وهذا يتناقض مع قيم الإيمان والأمل والتفاؤل التي جاء بها الإسلام، كذلك فإن الإسلام لم يترك الأرواح مرهونة بحماية القيم أوسد ذرائع التعدي عليها، بل شرع القصاص لمنع ذلك التعدي، وجعله فرضاً من الفروض، وأشار الى حكمته بأن ذلك يكون صوناً للأرواح والدماء، والقصاص يحقق الأمن المجتمعي، فهو يقلل من القتل باقتصار القتل على القاتل، فيدفع المفسدة عن الأنفس كما أن القصاص يمثل ردعاً عن جريمة القتل مستقبلاً، ويعد شفاء لغليل أولياء دم المقتول وأهله مما يحجزهم عن أخذ حقهم بأيديهم دون رقابة من القانون والقضاء، فالقاتل إذا علم أنه سيقتل قصاصاً لن يقدم على القتل، وبذلك يكون القصاص حياة للقاتل والمقتول، ويعلق الإمام الرازي على تفسير هذه الآية:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بقوله: « ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة؛ لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حقّ من يُريد أن يكون قاتلاً وفي حقّ من يُراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهم أيضاً، أمّا في حقّ من يريد أن يكون قاتلاً، فلأنه إذا علم أنه لو قَتل قُتل ترك القتل فلا يقتلُ، فيبقى حيّاً، وأمّا في حقّ من يراد جعله مقتولاً فلأنّ من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله، فيبقى غير مقتول، وأمّا في حقّ غيرهما، فلأنّ في شرع القصاص بقاء من هَمَّ بالقتل أومن يهمُّ به وفي بقائهما بقاء من يتعصّب لهما؛ لأنّ الفتنة تعظم بسبب القتل، فتؤدي إلى المحاربة التّي تنتهي إلى قتل عالم من النّاس، وفي تصوّر كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكلّ « ( تفسير الرازي: 5/229) .
كما يتصّل حقّ الكرامة الإنسانيّة بحقّ الحياة، لأنّ الإنسان جسد فيه الحياة وروح تتسامى إلى الأعلى، وعقل يقدّر الأشياء حقّ قدرها، فلا يقتصر على حقّ الحياة مع المهانة والمذلّة؛ لذلك كان التلازم قائماً بين الإحساس المادّي بالوجود وشخصيّة الإنسان والإحساس المعنوي بعزّة النفس وعدم خضوعها إلا لله تعالى، ويستوي في حقّ الكرامة الإنسانيّة المسلم وغير المسلم، فقد روي في صحيح مسلم أنّ جنازة مرّت بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقام، فقيل له: إنّه يهودي، فقال- صلى الله عليه وسلم-: (أليست نفساً). إن احترام الروح الإنسانية التي أودع الله فيها سر الحياة هو تعظيم لخالقها سبحانه وتعالى، وهذا القيام الذي فعله النبي- صلى الله عليه وسلم- إنما هو تعظيم لخالق هذه النفس الإنسانية وقابضها، ولا يحوز بحال من الأحوال امتهان كرامة الإنسان، ومن أساء إلى كرامة أخيه عوقب على فعله في الدين الإسلامي، وأجد شاهداً عظيماً على ذلك من تاريخنا الإسلامي، إنّها قصّة القبطي الذي ضربه محمد بن عمرو بن العاص، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنّا عند عمر بن الخطاب رضوان الله عليه. إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك. قال: ومالك. قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر النيل، فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام محمد بن عمرو، فقال: فرسي وربّ الكعبة، فلما دنا منّي عرفته، فقلت: فرسي وربّ الكعبة، فقام إلي يضربني بالسوط، ويقول خذها وأنا ابن الأكرمين. قال: فو الله ما زاده عمر على أن قال له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو: إذا جاءك كتابي هذا، فأقبل، وأقبل معك بابنك محمد. قال: فدعا عمرو ابنه، فقال: أأحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ قال: لا. قال: فما بال عمر يكتب فيك؟ قال: فقدم على عمر. قال أنس: فو الله أنا عند عمر حتى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فقال: أين المصري؟ فقال: ها أنا ذا. قال: دونك الدرة، فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين. قال: فضربه حتى أثخنه، ثم قال: اجعلها على صلعة عمرو، فو الله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، قال: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه. أيا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ثم التفت إلى المصري، فقال: انصرف راشداً، فإن رابك ريب فاكتب إلي»
وأخيراً، فإن الإنسان مخلوق مرهف الإحساس، مفعم بالمشاعر والأحاسيس لديه شعور وانفعال يؤثر ويتأثر تجذبه أصوات العصافير، وتعذّبه القيود والأغلال، فهو ليس آلة أو صخرة صماء وأيّ معنى لحياة الفرد إن لم يمتلك كرامة يعيش في ظل فيئها؛ لكلّ هذا وغيره تفرّع حقّ الكرامة الإنسانية عن حقّ الحياة، بل لازمه وارتبط به، وهذه الملازمة والاتحاد بينهما لم تكن بتشريع وضعي أو قانون عصري يتغيّر بتغيّر الزمن والدول، بل هو تشريع سماوي وقانون علوي من لدن عليم خبير، وقال جل من قائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.