د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن حذَّرنا المفكر الأمريكي جيمس روزنو بذكاء في بداية تسعينيات القرن الماضي من مغبة الاضطرابات التي قد تعيشها العديد من مناطق العالم، كما طالب بالابتعاد عن النظريات الشبيهة بنظرية هانتغتون الذي يدعي صياغة العالم في خرائط. فالعالم الحالي ليس أحادي القطب وليس ثنائي القطبين ولا متعدد الأقطاب وليس عالماً شمولياً بشكل تام ولا مجزأً إلى أبعد حد: إنه عالم غير منظم في شكل حضارات وتكونه حضارة موحّدة.
وإذا كانت الشمولية تتجه إلى تراجع المطالبة بحق الهوية، وإذا كانت التوجهات نحو التجانس تستدعي بالمقابل دعوة خصوصية للمعنى الذي يضع القيم في قلب العمل الدولي، فلقد أضحى العالم أكثر تعقيداً، كما يتجلى ذلك من خلال دراسة سوسيولوجية الأفراد المواطنين والمستهلكين للقيم والشعارات والذين يفرقون بين مختلف مصادر المعلومات والخطابات المتاحة. ويعرف هذا الإنتاج أزمة رباعية بوأت «الفرد المقتدر» في المقام الأول. فهي أزمة المعاصرة في البدء: حيث ينظر إلى العالم الجديد في العديد من الدول على أن جودة الحياة قد تدهورت، وأن الخطابات السلفية أو التي تحن إلى العصور الذهبية تجد في ذلك ضالتها. ثم إنها أزمة الاندماج، إذ تنتج الشمولية المهمشين على صعيد القارة بأسرها (القارة الإفريقية مثلاً) والذين يزيدون من حدة الأزمة السالف ذكرها، وهناك كذلك أزمة الدولة التي فقدت الوسائل التي امتلكتها آنفاً الدولة الراعية والحامية لتلبية متطلبات الضعفاء. وأخيراً هناك أزمة تعميم النموذج الغربي الذي كان يتسم بقيم العقلانية والتقدم والذي نادى بتعميمه وبشر بفوزه جل المنظرين الغربيين بحيث يمكن تطبيقه على «دول العالم الثالث» التي عانت من مبدأ «الدول المستوردة» وأضحى اليوم موضع انتقاد.
ومن هنا يطرح سؤال آخر، فهل وحدها عقلانية العلاقات الدولية هي نفسها عقلانية الغرب؟ وهل يتعين علينا اعتبار أن الغرب يجسد الحكامة الجيدة والمنطق والفعالية؟ وهل نخال أن ما يخرج عن المجالات التي تخلى عنها الغرب ينتمي بالضرورة إلى مجالات الوجدان والظلامية وعدم الكفاءة؟ وهذا ما يحصل في الدول الغربية عندما تعاقب دولة لا تعمل بتوصيات البنك الدولي، وكذاك الشأن عينه عندما تمنع دولة من امتلاك بعض الأسلحة المتطورة، على خلاف دول أخرى، لا لشيء سوى لأنها بعيدة عن الغرب. وهكذا تفرز الدول الغربية قواعد جديدة للاحتجاج وتشجع كذلك بطريقة غير مباشرة مجالات التضامن بين هؤلاء الفاعلين. ففي كراكاس وبلغراد وفي جهات أخرى تتكون جبهات. كما يحدث الشيء عينه في موسكو أو في بكين. ولعل الإفراط في تماهي المنطق غير الغربي بالمنطق المارق أو بالأحرى بالمنطق المجنون ينتج ثقافة دولية مضادة. ولا يتعلق الأمر هنا بالحتمية الثقافية المتصلبة لهانتيغتون، بل يتعلق بثقافة الاحتجاج المتغيرة والمتطورة والتي يخلقها فاعلون كثر... هذا من جهة. ومن جهة أخرى غالباً ما يتناسى البعض دور النرجسية الثقافية في فهم بعض الظواهر في العلاقات الدولية، ولعل الرجوع إلى أحد الكتب الأخيرة التي ألفها أيمانويل، هو أكبر معبر لذلك.
أشار إيمانويل تود إلى مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ ثم إن هذا الإحساس يولّد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف؛ ويقول الكاتب: «نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفًا تجاه الغير».
الزميل إيمانويل تود هو من عائلة فكرية ذات صيت عالمي، فهو ابن واحد من أبرز رؤساء تحرير المجلة الفرنسية الشهيرة L)Express، أوليفيي تود، وهو ما خلق له بنوة فكرية مع واحد من عمالقة الفكر في فرنسا جون فرنسوا روفيل، كما أنه حفيد الروائي الكبير بول نيزان، وهو واحد من أبناء عمومة كلود ليفي ستروس الذي خلق مدارس فكرية تدرس في العديد من جامعات العالم. ايمانويل تود الذي عده البعض مرتداً وخارجاً عن الجماعة الفكرية الرسمية في فرنسا، لم يخن ذاكرة مؤسسي الفكر النقدي والفكر المتفتح الفرنسي والغربي، فهو على خطوات ألفريد سوفي، وتفاؤل بيير شوفي، عالم التاريخ الفرنسي المحسوب على اليمين والذي ظل قامة إنتاجية طيلة حياته، وعيدكم مبارك سعيد.