عبدالرحمن الحبيب
تخيل كائناً فضائيًا، يتم إرساله متخفيًا إلى الأرض كل نصف قرن، لتفسير حالة الحياة البشرية على هذا الكوكب. ماذا سينقل لزملائه خارج كوكب الأرض حول عام 2024؟ تحسن أم تدهور؟ سؤال يقدمه فرانسيس جافين، البروفيسور في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، ويجيب بأنك ستحتاج إلى التوفيق بين التقييمات المختلفة من ازدهار واضطرابات وعنف حول عالم اليوم، ولكن في النهاية، فإن كائنه الفضائي «يُذكر نفسه، ويتمنى أن يتذكر سكان الكوكب، أن القليل من الناس كان من الممكن أن يتخيل الأشخاص الذين عاشوا في الأعوام 1974 أو 1924 أو 1874 والتقدم الاستثنائي الذي حققه أبناء الأرض منذ ذلك الحين.»؛ «إن الدوافع (الخوف من المجاعة أو التعرض للغزو) التي تدفع الدول إلى تعبئة مجتمعاتها بشكل كامل لمواصلة حروب الغزو الشاملة ... قد اختفت تقريبًا».
يوضح جافين، إن البنية الأساسية والحوافز والتكاليف التي تشكل العلاقات الدولية، وسلوك الدولة، وطبيعة القوة، تختلف اليوم بشكل عميق عما كانت عليه في الماضي، بطرق نادراً ما يتم الانتباه لها ويساء فهمها على نطاق واسع. على مدى جزء كبير من التاريخ، اتسمت السياسة العالمية بالندرة الشديدة في الموارد والمعلومات والأمن. وقد نجحت سلسلة من الثورات التاريخية في ترويض هذه الندرة إلى حد كبير بطرق لم يكن من الممكن أن يتخيلها سوى القليل. ولكن هذه الثورات ولدت تحديات جديدة للعالم، وربما تكون كارثية ألا وهي: مشاكل الوفرة.
هذه زبدة الكتاب الجديد لجافين: ترويض الندرة ومشاكل الوفرة (The Taming of Scarcity and the Problems of Plenty) الذي يوضح أن الحالة السابقة التي جعلت من المؤسسات والممارسات والنظريات والسياسات تواجه الندرة وتقلصها إلى حد كبير من خلال توليد ازدهار هائل، والتي كانت تستخدم أحيانًا لتبرير معاقبة الغزو، غالبًا ما تكون غير مناسبة لمعالجة مشاكل الوفرة. ففي عصر الوفرة الجديد تتطلب الإستراتيجية الكبرى الناجحة تفكيرًا جديدًا.
لقد بنى العديد من خبراء السياسة العالمية منذ فترة طويلة وجهات نظرهم العالمية على رؤى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588- 1679)، الذي اقترح أن الوضع الطبيعي للبشر يولد حرب الجميع ضد الجميع، حيث يكافح الأفراد للهروب من الجوع ومخاطر الفوضى في عالم من عدم الثقة والندرة.
بالمقابل، يطرح جافين تخيل حطام سفينتين مختلفتين. الأولى يصل طاقمها إلى جزيرة صحراوية قليلة الطعام والموارد الأساسية.. من أجل البقاء والمساكن والأراضي المحدودة لإنتاج الغذاء، يدركون أنه يجب إقامة نظام بدلاً من الفوضى، لكن في حالة الندرة وانعدام الثقة، فالتعاون والسخاء لا يكافآن، ويصبح العمل الجماعي مستحيلاً تقريباً.. الافتراس هو القاعدة. هذا يتوافق مع تصورات هوبز.
الآن تصور جزيرة مختلفة: جزيرة الكنز. يتوفر الطعام والمأوى الطبيعي بكثرة، ويشعر السكان بحرية أكبر في تبادل المعلومات والتجارة. ولكن مع مرور الوقت، تنشأ مشكلة. إن أكوام الأطعمة نصف المأكولة التي يتم التخلص منها بشكل متهور.. الفاكهة أو جثث الحيوانات الوفيرة التي يمكن اصطيادها بسهولة، تجتذب البعوض الذي يحمل مرضًا قد يكون مميتًا. على عكس الجزيرة الصحراوية، فإن جزيرة الكنز لا تتعرض للتهديد بسبب التحدي الناجم عن الندرة بقدر ما تتعرض لمشكلة تنشأ من الوفرة.
يتطلب حل هذا التحدي الناجم عن الوفرة أن يتعاون سكان جزيرة الكنز في التخلص من النفايات. وهذا ليس بالأمر السهل فالعمل الجماعي صعب بنفس القدر كما هو الحال في جزيرة صحراوية، ويظل بناء النظام صعباً. إن سكان الجزر مهووسون بمن يملك المزيد من الأراضي والثروة، وقليل منهم يريد التضحية بعاداته وتفضيلاته الفردية من أجل الصالح العام. ويميل الأفراد إلى التهديد بالإكراه والعنف، رغم أنهم سرعان ما يدركون أن هذا لا يساعد كثيراً في حل مشاكلهم المُلحة. ومع ذلك، في النهاية، يدرك سكان الجزيرة أنهم لا يستطيعون البقاء إلا إذا كافأوا أولئك الذين يطورون الحلول الأكثر ابتكارًا وآليات التصميم التي تجتذب الإجماع وتضع قواعد عادلة وفعَّالة وقابلة للتنفيذ للتخفيف من التهديد الوجودي المحتمل.
على المدى الطويل، لا تعتبر أي من الجزيرتين أكثر أمانًا بالضرورة من الأخرى: حيث يواجه سكان كلتا الجزيرتين تهديدات وجودية ومشاكل في العمل الجماعي. فهل ينطبق الأمر نفسه على النظام الدولي؟ يقول المؤلف: «النظام الدولي، مثله مثل الطبيعة، ليس ثابتاً».
الكتاب يتناول البنية الأساسية والحوافز والتكاليف التي تشكل العلاقات الدولية وسلوك الدولة وطبيعة السلطة التي تختلف اختلافًا عميقًا اليوم عمَّا كانت عليه سابقاً، رغم أنه بالنسبة لمعظم الناس، كانت الحياة كما وصف هوبز حالة الطبيعة: «سيئة، ووحشية، وقصيرة». ونتيجة لذلك، فإن الدول القومية والإمبراطوريات الأكثر قدرة على تنظيم اقتصاداتها ومجتمعاتها وسياساتها من أجل غزو الأراضي والسيطرة على السكان، القريبين والبعيدين هي التي ازدهرت. ولكن حتى عندما كان العالم تمزقه هذه الصراعات الكارثية، كان النظام الدولي في طور التحول.. وكانت خمسة تحولات عظمى ذات أهمية خاصة: التحول الديموغرافي، الثورات التكنولوجية في الزراعة، الصناعة، الصحة. ثورة المعلومات، المؤسسات الدولية، مخاطر حروب الغزو بين القوى العظمى (الردع المتبادل). هذه الثورات حدَّت من المجاعة والمرض والبؤس.