د.عبدالله بن موسى الطاير
«الإرهاب مجرد عدالة ناجزة، ولهذا فإنه انبعاث للفضيلة». ليست هذه المقولة للإرهابي أبوبكر البغدادي ولا أيمن الظواهري، ولا أي من إرهابيي الشرق، لهم مقولاتهم التي تبرر الإرهاب، لكن صاحب القول أعلاه هو الفرنسي ماكسميليان روبسبيير (1758-1794م)، وله وجه آخر يحتفل به الفرنسيون باعتباره محاميًّا سوربونيًّا، ورجل دولة وينظر له على نطاق واسع أنه من أشهر وأكثر الشخصيات تأثيراً في الثورة الفرنسية، وكان عضوًا في الجمعية الوطنية، وعضوًا في لجنة السلامة العامة، وهي هيئة حكومية قوية كانت مسؤولة عن قمع المعارضين للثورة، وخلال فترة حكم الإرهاب، أمر روبسبيير بإعدام آلاف الأشخاص، بمن فيهم العديد من الرفاق الثوريين السابقين، وأصبح يُعرف لاحقًا باسم «خنجر الثورة».
فترة حكم الإرهاب جعلت الرأي العام الفرنسي شغوفًا بالمقصلة التي لا تخضع لأي قوانين، وانتقل هذا الشعور العام بالقيادة الفرنسية من «الحماس إلى الطموح المتهور». وكعادة الإرهابيين، فإنهم جبناء عندما يواجهون المصير المحتوم، لذا حاول روبسبيير الانتحار، فحوكم في 27 يوليو 1794م، وأدين بتهمة الخيانة من قبل الجمعية الوطنية، وأعدم هو وشقيقه على ذات المقصلة في اليوم التالي لصدور الحكم، وبنهاية حركته أفرج عن نحو 42 ألف سجين كانوا بعض ضحايا حكم الإرهاب الذي أعقب الثورة الفرنسية.
الرجل التالي الذي صعق البشرية ربما كان أدولف هتلر الذي استغل خطاب الكراهية والدعاية لزيادة شعبيته، واعدًا بإعادة ألمانيا إلى عظمتها السابقة واستعادة الأراضي التي فقدتها في معاهدة فرساي، واستخدم العنف والترهيب لقمع المعارضة. يقال إن توحش هتلر لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل كان نتاجًا لتطور تدريجي لأفكاره وسلوكياته، ومعلوم بالضرورة أن للتصفيق والهتافات سحرها الخاص وللشعبوية فتنتها، والنفس المتطلعة لا تكتفي، بل تبتكر الأساليب للمزيد منها، وكانت المحارق التي رويت في حق اليهود تصعيدًا في حدة أساليب استحلاب الشعبية وانتقالًا بها إلى مستويات فظيعة.
ربما يكون رجل المرحلة في قائمة الإرهاب هو بنيامين نتنياهو الذي قتل نحو 35 ألف شخص من المدنيين العزل خلال ستة أشهر، علمًا بأنه مسؤول حكومي، ومنتخب ديموقراطيًّا تمامًا كما كان كل من روبسبيير وهتلر، وكل من الثلاثة كان يتطلع ليوم أفضل لبلاده، لكنه سقط في مستنقع الإرهاب عندما سلم أذنه ومشاعره لهتاف الجماهير.
الأمريكيون خائفون حد الموت من نصيب مرتقب من القادة الشعوبيين، وقد عرضت دور السينما الأمريكية اعتبارًا من الأسبوع المنصرف إنتاج هوليوود الجديد الحرب الأهلية (Civil War)، الذي يأتي في احتدام السباق نحو البيت الأبيض، واتساع الفجوة الأيدولوجية بين الجمهوريين والديموقراطيين. سيرعب هذا الفيلم الأمريكيين، وسيريهم مشاهد لبلادهم مدمرة كما هي حلب وغزة، وسيذكرهم بمشاهد هزيمة القوات العراقية على يد قواتهم الأمريكية المسلحة عام 1991م، ولكن الضحايا وبقايا الدمار هي سيارات ومجنزرات أمريكية، وسوف يعيد تقديم حرق الإنسان حيًّا على يد داعش الذي راح ضحيته الأردني معاذ الكساسبة، حين يحرق أمريكيون مواطنهم الأسود بالنار حيًّا في الحرب الأهلية الأمريكية المتخيلة، ويُقتاد الأسرى إلى ميدان عام يطلق عليهم وابل من الرصاص من بنادق إخوتهم الأمريكيين تحت دوي القهقهات.
حظيت البشرية برخاء واضح منذ نهاية الحرب الباردة، لكن الإنسان الذي يتشارك السمات ذاتها مع روبسبيير وهتلر وأبو بكر البغدادي ونتنياهو يعيش بيننا معاشر البشر، والظروف التي تحيد بهم عن حياتهم السوية إلى الإرهاب يمكن صناعتها وتبريرها بسهولة، والنفوس المتعطشة للتصفيق والهتاف موجودة، وتقول هل من مزيد.
اليوم ليس أسهل من صناعة الشعبوية، وليس من لقاح يحول دون الافتتان بها، ومبررات طلب المزيد من الشعبية بسفك الدماء بعد أن تبلغ الأساليب السلمية مداها متيسرة، وهتاف الرعاع سيملأ الآفاق، وسيكون كافيًا لحجب أصوات الألم والأنين. مجتمعنا البشري يتجه لإعادة إنتاج دمويته، ولا مجال لوقف عجلة التدهور عندما تحين دورتها.