د. محمد بن إبراهيم الملحم
بعد انقضاء الشهر الكريم بدأت أشاهد حلقات المسلسل السعودي «الأحسائي» الذي ضج شارع السوشال ميديا الأحسائي وكذلك الإعلام المحلي بالحديث عنه وهو «خيوط المعازيب» والذي يصور الحياة الأحسائية القديمة على خُطى المسلسل السعودي الشهير «العاصوف» وما شدني إلى الموضوع هو انتمائي إلى الهفوف العنصر المكاني الأهم لأحداث المسلسل وما شاهدته من لقطات ومشاهد للمسلسل أدهشتني بما فيها من جوانب جذب وتعجب في نفس الوقت، وهو ما جعلني أهتم بمشاهدته كاملاً لأتمكن من الحكم عليه وتقييمه، وليس من عادتي مشاهدة المسلسلات وإنما يجذبني بعضها مما ينتمي بشكل أو بآخر بجانب ثقافي سواء كان تاريخياً أو تراثياً أو ذا بعد اجتماعي.
المسلسل عمل فني ضخم، بكل ما حمله من إنتاج وإخراج وتصوير وخدمات ديكور وتجهيز ومحاولة للواقعية ونقل المشاهد إلى حقبة تاريخية مضت، فالمباني التي تم تشييدها والسيارات القديمة التي وظفت في المشاهد بالإضافة إلى وسائل النقل المعتمدة على الحيوانات كالحمار والقاري (العربة التي يجرها) والأثاث القديم وكل التجهيزات المكانية بما فيها من تنوع وواقعية وحجم ومساحة تشهد لهذا العمل بالضخامة واستهداف الاحترافية، في الجانب الآخر فإن القصة بما فيها من حبكة ممتعة ومشاهد جاذبة وسيناريو ملفت كلها نجحت في دمج المشاهد بالعمل وجعله يتفاعل مع الأحداث ويتشوق للقادم منها، الممثلون تألقوا وبالنسبة للرجال فإن التألق كان واضحاً لممثلي الأدوار الثانوية إذ قدموا أنفسهم بشكل مميز ولافت، أما الممثلات فقد كن في القمة باستثناءات يسيرة جداً، الممثلون الأطفال كانوا نجوم هذا المسلسل بدون شك سواء الأولاد أو البنات وإن كان للأولاد الحظ الأكبر.
كل هذه الجوانب المضيئة في هذا المسلسل الناجح يقابلها جوانب أخرى شكلت تناقضات غريبة وخلقت جواً معكراً لفخامة العمل، ولكن ربما لا يشعر به إلا الجيل المخضرم الذي يدرك تلك الفترة التي يحاول العمل أن يسجلها، وسوف ألقي الضوء على أهم هذه الجوانب في هذه المقالات آملاً أن يتقبل مني أصحاب العمل هذا السرد النقدي والذي يهدف إلى الارتقاء به انطلاقاً من حبي وانتمائي للأحساء وفرحي بظهور عمل يعكس «جانباً» من الحياة الأحسائية، وأتمنى أن تتلوه أعمال أخرى تعكس بقية الجوانب وتقدم الأحساء بشكل أفضل وأوضح وتنفي بعض الضبابية التي ربما خلقها هذا المسلسل.
طبعاً وقع المسلسل في نفس أخطاء أي مسلسل درامي عربي يسجل حقبة تاريخية فثياب الناس كلهم تظهر جديدة ومرتبة! وجدران المنازل كلها يتضح عليها الحداثة والنظافة التي تفضح شكلية العمل الفني وتشعرك أنك تشاهد تمثيلاً لا ينقلك لذلك الواقع، أشكال الناس من حيث النظافة وترتيب وقصات الشعر وتنظيم الغترة والعقال وتشبيك أزرار الطوق وما إلى ذلك من المظاهر «الحديثة» تفضح شكلية العمل الفني أيضاً، وكذلك نظافة البيوت من الداخل سواء أرضياتها أو أثاثها أو موجوداتها من الأشياء تفضح العمل مرة أخرى، وهكذا يمكنك تصور قائمة من المظاهر الفاضحة لشكلية العمل ولو أعدت مشاهدة المسلسل بهذا التصور ستقرأ بشكل أفضل هذه السقطة المتكررة في هذا العمل (بل وغيره من الأعمال كما أسلفت)، وعندما نقول إنه متكرر في ما سبقه من أعمال فهو لا يعفي العمل الحالي من المسؤولية بل يضاعفها، فهي سقطات باتت معروفة وربما يتندر بها طلاب المرحلة الثانوية عندما يتفرجون على مثل هذه الأعمال فكيف لا يتصرف معها فريق هذا العمل ابتداءً، علماً أن المطلوب لتجاوز هذه الإشكاليات هي تصرفات بسيطة لخربشة بعض هذه الأشياء بما يضفي عليها بعض الواقعية بنقلها من حالتها الجديدة إلى صورة مستهلكة تشعر المشاهد بواقعية أكثر. أشير أيضاً أن عباءات النساء بالإضافة إلى أنها نظيفة وحديثة ولكنها كانت تلمع وهذا النوع (اللماع) لم يكن موجوداً حينذاك بل كانت جميع العباءات طافية اللون.
بعد هذه السردية السريعة سأتناول فيما يلي عدداً من الجوانب بشكل مصنف بادئاً بالفترة الزمنية ثم المكانية ثم تناقضات متنوعة ثم اللهجة واللغة وأخيراً الجانب الدرامي. فبالنسبة للزمان فالقصة تقصد زمن الملك فيصل رحمه الله حيث وضحت ذلك الصور الموضوعة خلف ضابط مركز الشرطة، ولكن المسلسل لم يتمكن من التناغم مع هذه الفترة فوقع في كثير من التناقضات المربكة، ففي تلك الفترة كانت كثير من شوارع الأحساء والتي تسير عليها السيارات مسفلتة بينما صورها المسلسل غير مسفلتة، كما أن السيارات لم تكن قادرة على السفر إلى ميناء العقير الذي كان طريقه رملياً بدون أسفلت ولا تعبره إلا سيارات الدفع الرباعي، ولكن أبوعيسى يرسل رويشد بسيارته العادية ليحضر الضيف العراقي (أبو ناظم) من هناك والذي يصل الأحساء عن طريق هذا الميناء! بل والأدهى أن هذا الميناء كان قد توقف عن العمل قبل استلام الملك فيصل للحكم بسنوات فكيف يأتى الضيف عن طريقه! كما أن سيارات الأجرة ظهرت في محطة القطار باللون الأصفر بينما في الواقع كانت سيارات الأجرة بألوان مختلفة ولكن تكون عليها دائرة بالباب مكتوب عليها «أجرة» أما التاكسي الأصفر فلم يظهر إلا في أواخر عهد الملك فيصل رحمه الله، أيضاً تقول أم فرحان لابنها «أبوك ماعنده إجازة بيشتغل خميس وجمعة» بينما في عهد الملك فيصل رحمه الله كانت إجازة نهاية الأسبوع هي يوماً واحداً: الجمعة فقط.
كما أن المسلسل صوّر النساء قد ذهبن لغسيل الثياب في النخيل لوفرة الماء، لكن هذه الممارسة خاصة بأهل القرى، ولم تكن تلك حالة أهل الهفوف وذلك أولاً لعدم قرب النخيل من منازلهن كما هو في القرى، وثانياً لوفرة الماء في بيوت أهل الهفوف سواء من خلال شبكة الماء والتي توفرت في الأحساء في عهد الملك فيصل أو من خلال الآبار المنزلية والتي لا يتجاوز عمقها غالباً أمتاراً قليلة لقرب الماء ووفرته في أراضي الأحساء.
سأواصل معكم في المقالة القادمة هذه الملاحظات الشكلية من حيث المكان وتناقضات أخرى واللهجة واللغة قبل أن أدخل إلى عمق الأداء وجوانب مهمة أكثر في درامية العمل ذاته فابقوا معنا وليتحملنا الفضلاء فريق العمل وأبطاله أو المعجبون بهم (وأنا منهم).
** **
- مدير عام تعليم سابقاً