أ.د.عثمان بن صالح العامر
في مثل هذه الليالي الحائلية الرائعة بجوها المميز، ونسماتها الخيالية، وهدوئها الأخاذ، وبعد أن ودعنا شهراً فضيلاً مباركاً.. ودعناه بنفحاته الربانية، وذكرياته الأسرية، وساعاته الروحانية، وطمأنينته النفسية، التي هي منّة من الله وفضل.. بعد هذه الأيام الثلاثين يطيب السهر مع عالم الكتب من جديد. ففي هذا المساء بين يديّ كتاب يتحدث فيه مؤلفه «فرانسيس ستونر سوندرز» عن القوى الناعمة ممثلةً بالثقافة على وجه الخصوص إبان الحرب الباردة بين الأمريكان والروس. ومما استوقفني وأحببت التعريج عليه في هذه الزاوية اليوم، ما ذكره المؤلف تحت عنوان «جثة هامدة» من أنه في عام 1947م افتتح الروس بيتاً للثقافة في (أونتردن ليندن Unter den Linden - ) الأمر الذي جعل البريطانيين والأمريكان يجن جنونهم من هذه المبادرة النوعية التي ستؤثّر على مسار الحرب القائمة بينهم إبان تلك السنوات، حتى أن أحد ضباط الشؤون الثقافية البريطانية كتب حينها تقريراً مفصلاً عن هذه المبادرة، هاجم فيه المؤسسة الثقافية البريطانية عاقداً المقارنة بينها وبين ما شاهده في البيت الثقافي الروسي، مؤكداً في ختام تقريره على أن هذا البيت: (... مؤسسة رفيعة المستوى، ستصل إلى الجماهير العريضة، وتصنع الكثير لمقاومة الفكرة السائدة هنا وهي أن الروس غير متحضرين... لا بد أن نتحرك مدفوعين بدخول الروس إلى ساحة الصراع الثقافي، ولا بد من الرد بمشروع على نفس المستوى لكي نبرز الإنجازات البريطانية هنا في «برلين»).
أما الأمريكان فقد كان ردهم رداً عملياً، حيث تم افتتاح (البيوت الأمريكية America Hauser) في جميع البلاد الأوروبية من أجل أن تكون بمثابة القواعد الأمامية لنشر الثقافة الأمريكية، وحتى تحتضن الفعاليات الثقافة بجميع أطيافها وكافة أنشطتها السينمائية والموسيقية والمعارض الفنية والمحاضرات التثقيفية والنشرات التعريفية التي تركز على كل ما هو أمريكي، وتحاول إبرازها - الثقافة الأمريكية - على أنها السبيل الأمثل لألمانيا المهزومة والمقهورة والمحتلة فضلاً عن بقية الدول الأوروبية، ومع ذلك يقول مدير العلاقات التربوية والثقافية في هذه المؤسسة متعددة الفروع (... وبالرغم من الإسهام الكبير الذي قامت به أمريكا في الميدان الثقافي، إلا أنه ليس ملموساً بشكل عام في ألمانيا أو في بقية العالم. إنهم ينظرون إلى ثقافتنا كثقافة مادية، وعادة ما نسمع تعليقاً يقول نحن لدينا المهارة والعقول وأنتم لديكم المال).
لم ينته المشهد بعد، فقد توغلت الثقافة السوفيتية التي كانت تنظر إلى أمريكا على أنها صحراء ثقافية خالية من العمق المعرفي في الدول الأوروبية، الأمر الذي دفع البيت الثقافي الأمريكي إلى تعزيز أنشطته وتكثيفها لتغير الصورة الذهنية التي زرعها الروس في العقل الألماني، وكانت الوسيلة الأقوى التي كان من خلالها التغيير المنتظر في الذهنية الأوروبية ( المواد المطبوعة).
يقول أحد مدراء «البيوت الأمريكية»: (هناك شيء واحد مؤكد، المواد المطبوعة التي جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية إلى هنا تركت أثراً عميقاً في الدوائر الألمانية، الدوائر التي باتت ترى على امتداد أجيال أن أمريكا متخلفة ثقافياً ... الأفكار القديمة القائمة على افتراض تاريخي مسبق عن تخلف أمريكا الثقافي، هذه الأفكار تم التقليل من أهميتها بواسطة برنامج الكتب الجيدة، والدوائر نفسها التي كانت تتبنى الأفكار أصبح لديها انطباع إيجابي كما كانت التقارير تقول).
بعد هذا النجاح في بناء صورة ذهنية إيجابية عن الثقافة الأمريكية استمرت المؤسسات الرسمية والمراكز البحثية والجمعيات العلمية تروِّج لهذه الثقافة على أنها ثقافة عالمية يجب على الكرة الأرضية الأخذ بها والنهل من معينها، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر 1991م وولوج العالم أجمع ما يُعرف بعصر العولمة، حيث القطب الواحد.
واليوم بعد التغيرات السياسية والتجاذبات الدولية والتحركات العالمية المدروسة تعود الثقافة إلى الواجهة، وتتسابق الدول لنشر ثقافتها والتبشير بها في ظل ما يعرف بـ(الصراع الثقافي العالمي)، ولبلادنا العزيزة المملكة العربية السعودية ممثلةً بمؤسساتها الثقافية وهيئاتها المتخصصة التابعة لوزارة الثقافة جهودها المتميزة لبناء صورة ذهنية إيجابية عن ثقافتنا الوطنية سواء منها النخبوية أو الشعبية، ولعل ذلك يتعزَّز بشراكات فعلية مع بقية الوزارت والهيئات والمؤسسات ذات الصلة، الحكومية منها والخاصة، بل وحتى الأهلية، فعلى سبيل المثال ينتظر من ملحقياتنا الثقافية أن تكون حلقة وصل مع الجامعات والمنتديات والبيوت الثقافية في العالم لنشر إنتاجنا المعرفي ذي الصلة المباشرة بمكوننا الثقافي الذي جزماً سيكون مبهراً ومؤثّراً وفعّالاً سواء أكان ذلك داخل أروقة الحرم الجامعي الأوروبي منه أو الأمريكي فضلاً عن الآسيوي والإفريقي، أو في المنتديات واللقاءات والمؤتمرات الدولية أو من خلال العلاقات الاجتماعية الخاصة التي ينتظر منها أن تؤكد للآخرين أننا أهل التعايش الثقافي، ورسل التسامح العقدي، وأرباب التبدل الحضاري وليس صحيحاً ما قيل عنا أننا لا نعرف في حياتنا الثقافية إلا الجمال والصحراء، ولا نقبل في عرفنا الثقافي الحوار مع الغير وليس لمن يخالفنا أياً كان سوى السيف، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء، والسلام.