د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، شاعر مُخضرم، من أصحاب المعلقات، سنقف عند بيتين من شعره أحدها في الجاهلية، والآخر في الإسلام، لكن قبل ذلك حري بنا أن نومئ إلى نتف من حياته المديدة، فوالده ربيعة يُكنى ربيع المقترين لسخائه وجوده، وعمه عامر بن مالك يُكنى ملاعب الأسنة، وذلك لبيت قاله فيه أوس بن حجر، وقد مات والده في معركة بين قبيلته وقبيلة بني أسد، وأمه تامرة بنت زنباع العبسية، وهذه القبائل تعيش في ربوع نجد، وعندما قتل والده كان عمره تسع سنوات، فعاش عند أعمامه في بيت كريم، يتحلى بالفروسية والكرم، فآباؤه من سادة قومهم وفرسانهم المعدودين، قال الشعر بعد أن بلغ الخامسة عشرة من العمر، ولانعرف إلا القليل عن طفولته وحياته المديدة.
ذات يوم وفدت أسرته بقيادة عمه عامر وإخوته على النعمان بن المنذر كعادتها، وكان من عادة النعمان مُنادمة الربيع بن زياد العبسي، وسرجون بن نوفل تاجر من أهل الشام يتاجر معه، ورجل آخر يقال له الطاسي متطبب عنده، وكانوا يتنادمون على الشراب والأكل، ويبدو أن قلب الربيع يحمل ضغينة على العامريين لأمر لا نعرفه، وإذا ما خلا الربيع بالنعمان اغتابهم وطعن فيهم، حتى أوغر صدر النعمان عليهم، فبعد أن خرجوا من عند النعمان أخذوا يتذاكرون فيما بينهم ما يفعله الربيع، والبحث عن حلول لمشكلتهم، وكانوا يخفون ذلك عن لبيد الذي يتركونه عند إبلهم إذا أرادو الدخول على النعمان، لأن الربيع من أخواله، وأمه يتيمة في حجر الربيع، فسمعهم يتهامسون، فأقسم ألا يحفظ الإبل، وألا يقدم لهم خدمة حتى يبلغوه بما يتحدثون عنه، فأبلغوه، فقال: أنا أكفيكم ذلك أدخلوني معكم على النعمان، وترددوا في ذلك، ثم امتحنوه في وصف بقلة، فأجاد، فقال أحدهم، انظروا إلى الغلام في الليل، فاذا كان نائماً فهو ليس بشيء، وإن رأيتموه يتمتم، فهو صاحبكم، فرأوه يتمتم ويهمس، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه جبة، ودخلوا على النعمان وهو معهم، فاذا بالنعمان مختلٍ بالربيع يأكلان حتى إذا ما فرغ أمر بإدخالهم، فدخلوا، فقال لبيد قصيدة منها:
يا واهب الخير الكثير من سعة
إليك جاوزنا بلاد مسبعة
يخبر عن هذا خبير فاسمعه
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
ثم أردف ببيتين قبيحين لا يُحسن إيرادهما، لكنهما قد أصابا الهدف، وحققا المطلوب، ولأن أمه في حجر ربيع، فهو يوحي للنعمان أن لديه خبراً بما ذكره من وصف قبيح في البيتين، فالتفت النعمان إلى الربيع، وقال: أأنت كذلك، قال: لا والله بل كذب علي ابن الأحمق اللئيم، ووالله إني قد فعلت بأمه، فقال لبيد : أنت أهل لذلك إن كنت صادقاً، أتفعل في امرأة في حجرك، فقال النعمان: اخرجوا آل جعفر عني، أي قوم لبيد، ثم لما انصرف الربيع أرسل له ضعف ما كان يحبوه، وقال: لا أريد أن أراك بعد اليوم، فأرسل له الربيع بأبيات من الشعر فرد عليه النعمان، ومنها بيت أصبح مثلاً:
قَدْ قِيْلَ مَا قِيْلَ إنْ صِدْقا وَإِنْ كَذِبا
فما اعتذارك من قول إذا قيلا
وهذه قصة أوردها الأصمعي، وهو يروي قصصاً عذبة جميلة في أسلوب مُشوّق، لكن ليس بالضرورة أن تكون صحيحة.
والآن نسطر شيئاً عن البيتين اللذين نحن بصدد الحديث عنهما، والبيت الاول، هو قول لبيد:
أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ
وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ
وفي الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إن أصدق كلمة قالها الشاعر، هو قول لبيد، ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وهو بيت فيه من الحكمة الشيء الكثير، كما يدل على أن الشاعر لبيد يحمل في طيات نفسه درجة معينة من التوحيد، رغم أنه جاهلي في بداية أمره، وقد قال جميع شعره قبل إسلامه ما عدا بيت واحد، أي أن الله هو الدائم، وما عداه فسوف ينتهي، وكذلك فإن نعيم الدنيا إلى زوالٍ، وقد يكون ذلك بموت الشخص، أو قد تزول النعم التي بين يديه في الدنيا، فالدنيا أحوالها مُتقلبة، لا يدوم لها حال.
والبيت الثاني للشاعر لبيد هو ذالك الذي قاله بعد إسلامه ولم يقل بعده شعراً قط، وهو قوله:
الحَمدُ لِلَّهِ إِذ لَم يَأتِني أَجَلي
حَتّى لَبِستُ مِنَ الإِسلامِ سِربالا
وهذا البيت فيه صدق الإيمان بالله، والصدق في اعتناق الإسلام، وأنه يرى في سريرته أن ذلك هو الربح العظيم، والمكسب الذي لا يضاهيه مكسب من مكاسب الدنيا، ودلالة ذلك تركه الشعر بعد إسلامه ما عدا هذا البيت، وذكر أن والي الكوفة التي استوطنها لبيد، وكان في ذلك الوقت الوالي من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة يطلب منه شعراً، فقرأ سورة البقرة، وقال: منحني الله هذا عوض شعري بعد أن أسلمت، وعلم بذلك عمر بن الخطاب، فزاد في أعطيته خمسمائة درهم، وكان يأخذ ألف درهم، ويقال إن معاوية قد نقص من ذلك، وقد امتد به العمر حتى مات في عهد معاوية بن أبي سفيان، ويقول ابن قتيبة إن عمره وقت وفاته مائة وسبعة وخمسين عاماً، أما الأصفهاني في الأغاني فيقول مائة وخمسة وأربعين، ومن المؤكد أن التاريخين مبالغ فيهما جداً، لكن يدل ذلك على أنه قد عَمّرَ كثيراً.