أ.د. محمد خير محمود البقاعي
وصلت إلى باريس في ليل يوم 12/12/1983 م مع مجموعة من الطلاب المبتعثين، وقضينا ليلة في فندق لم أعرف موضعه ولا اسمه، وجاء مسؤول من السفارة في اليوم الثاني واستكملنا أوراقنا ووجهونا كما سبقت الإشارة إلى معهد لتعليم الفرنسية في مدينة سانت إيتين التي سبقت الإشارة إليها في الشذرة (11). بدأنا في اليوم الثاني لوصولنا بالقطار السريع TGV الذي قطع المسافة بين باريس وليون (500) كم بساعتين، ثم استقلينا قطارا آخر إلى وجهتنا. ووجدنا في انتظارنا طالب طب سوري يقيم في سانت إيتين استضافنا ليلة وصولنا، وفي اليوم التالي تولى المعهد إسكاننا في المدينة الجامعة التي كانت تقع في مرتفع غير بعيد عن المعهد، والجامعة. كان سكنا مختلطا مما شكل لنا في البداية بعض الإحراجات وما لبثنا أن اعتدنا على إدارة شؤوننا بما يقتضيه التأقلم مع الوضع الجديد، كان المعهد يضم طلابا من جنسيات. مختلفة مقسمين إلى مستويات حسب اختبارات نظموها لنا وجرى قبولي في المستوى الثاني من ثلاثة مستويات. كان المدرسون من الجنسين أيضا وكان العمل مكثفا والاختبارات أسبوعية، وكان لنا أستاذ طريف جدا وذو حضور وظرف، كان من أصل إيطالي، لغوي بارع، أنسيت اسمه، ولكن ذكرى نصائحه ما زالت ماثلة في الذهن، وقدرته الفائقة على إيصال المعلومة في جو من الظرف والوضوح. وهو الذي نصح لنا التردد على الحدائق العامة عندما يكون الطقس مؤاتيا لكسب ود المتقاعدين من الرجال والنساء لأن لغتهم قريبة إلى اللغة العالية ومخارج الحروف لديهم واضحة منغمة ولديهم الوقت للحديث والمساعدة، وقد عملت بنصيحته حتى صار بعضهم يملي علي لأكتب باعتبار أن الإملاء الفرنسي تكتنفه صعوبة كتابة ما لا نقرؤه. مرت الأيام وكان التطور اللغوي والثقافي مرضيا. تعرفت خلال هذه المدة إلى طلبة من جنسيات متعددة؛ كان منهم المغربي والجزائري والتونسي، والليبي، والبولندي والإيراني وكثير من الأفارقة الفرانكوفونيين وغير ذلك من طلاب الجامعات الذين يسكنون السكن الجامعي. ويحضرني هنا أن زميلا مغربيا سألني عما أريده من المغرب لأنه مسافر في إجازة لمدة أسبوعين فأوصيته أن يقتني لي كتابا علمت وأنا في حمص أنه طبع في دار الثقافة في الدار البيضاء 1981م عنوانه: «المعلقة العربية الأولى أو عند جذور التاريخ» للكاتب المصري الدكتور نجيب محمد البهبيتي (1908-1992م) رحمه الله، وكنت علمت بطرف من قصة المؤلف وخلافه مع معسكر العميد طهحسين (1306 هـ / 1889 م- 1393 هـ / 1973م)، رحمه الله ، ومغادرته مصر إلى المغرب ليقضي حياته فيها؛ والبهبيتي مؤلف عدد من الكتب الأكاديمية الرصينة وأتقن فضلا عن العربية، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية والألمانية، واطلع على أفكار المستشرقين في مظانها، وكان الخلاف منصبا على أسبقية التأليف بينه وبين البروفسور ناصر الدين الأسد (1922-2005م) رحمه الله بين كتابي «تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري»، الخانجي 1961م. وكتاب «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار الجيل، بيروت، 1988م. ووجدت البهبيتي يقول في مقدمة الطبعة المغربية من كتابه، دار الثقافة، 2001م: (إن هذا الكتاب قد سُلختْ منه كتب برمتها، وأن أصحابها لم يشيروا الى الأصل الذي أخذوا عنه أية إشارة، حتى كأن الكتاب لم يكن، ولم يعرف، ومن هذه كتاب دعاه صاحبه: (مصادر الشعر الجاهلي). ونجد تفاصيل ذلك في مقالة نشرته صحيفة «العرب» بعنوان: «نجيب محمد البهبيتي في مواجهة معسكر طه حسين» بقلم صلاح حسن رشيد يوم الأحد، 12 يونيو، 2022م.
ولما وصل إليّ الكتاب عكفت على قراءته مستعيدا بعض نشوة القراءة بالعربية بعد انقطاع. ولما انقضت الشهور التسعة التي قضيتها في دراسة اللغة الفرنسية (ستة شهور في المعهد، وثلاث شهور الصيف في التردد على مكتبة الجامعة لمخالطة الطلبة وقراءة ما يتاح من الكتب والمجلات، ومتابعة البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار على وجه الخصوص؛ فانبثقت فكرة الترجمة، وكانت المحاولات الأولى التي تولى قراءتها وتصحيحها أستاذ لغة عربية من أصول فرنسية تعرفت عليه اسمه إيمانويل بريجون وكنت أعرّب اسمه فأنطقه عمانويل، فيفرح بذلك ويأنس بالعين التي يصعب على غير العرب نطقها. كانت المراسلات مع الأصدقاء في حمص للاطمئنان ومتابعة الأخبار العلمية، وأذكر أن الصديق العلامة عبد الإله نبهان رحمه الله سألني في نهاية عام 1984م عن مصطلح العلامة اللغوية فأحببت أن أجيب بتفصيل فسألت عمانويل فدلني على كتاب أكاديمي فرنسي هو تزيفتان تودوروف Tzvetan Todorov (1939- 2017 م)، وكتابه: «القاموس الموسوعي لعلوم اللغة» فترجمت منه ما يتعلق بالعلامة اللغوية وعرضتها عليه فصحح بعض ما فيها مما لم أكن قد وعيته بعد ولما اطمأن إلى الترجمة أرسلتها إلى الدكتور عبد الإله نبهان في حمص فأعجبته وأرسلها إلى مجلة جامعة حمص التي نشرتها. كان هذا في بداية شهور صيف عام 1984م. توجهت فيها إلى باريس أحمل القبول من البروفسور أركون للالتحاق ببرنامج الدكتوراه وكان قد بدأ تطبيق نظام الدراسات العليا الجديد في فرنسا بما سمي «الدكتوراه الجديدة» التي تخلى فيها الفرنسيون عن نظام السلك الثالث = Troisième cycle ثم يتأهل الطالب بعدها لما يسمى دكتوراه الدولة Le doctorat d› tat
وقد يستغرق ذلك سنوات طويلة أما النظام الجديد فيشبه النظام الإنجليزي PHD المعروف. كان اللقاء بالبروفسور أركون أريحيا، وبعد حوار قصير أهديته بعده ما كنت أنجزته في التراث واطلع على سنوات دراستي ونتائج معهد اللغة الفرنسية وقال: أنا مستعد لقبولك نهائياً على الفور ولكني أريد أن أنصح لك بعد اطلاعي وسماعي أن تلتحق ببرنامج في علوم اللغة لتحكم منهجية الدراسات الإنسانية وهذا متوافر في برنامج رائد في جامعة ليون الثانية Lyon 2 Louis Lumière في مدينة ليون ففيها برنامج على النظام الجديد للطلاب الذين حصلوا على بكالوريوس في المجال نفسه علوم اللغة يحصل الطالب في نهايته (سنتان) على شهادة ال DEA دبلوم الدراسات المعمقة (ماجستير) يصبح بعده مرشحا للدكتوراه الجديدة (دكتوراه الجامعة) التي حدها الأعلى أربع سنوات، فخيل إلي حينئذ أنه يريد التخلص مني، فخرجت وأنا حزين وقلق ولكنني عدت مباشرة إلى ليون وذهبت إلى قسم علوم اللغة لمقابلة أستاذ اللسانيات والمشرف على الدراسات العربية التي يختص بها الطالب بعد الحصول على دبلوم الدراسات المعمقة شأنه شأن الطلاب الفرنسيين من خريجي بكالوريوس علوم اللغة وتكون الرسائل مطبقة في المجالات العربية. قابلت الأستاذ المسؤول أندريه رومان فتحدثنا سحابة ساعة أهديته بعدها المتوافر من أعمالي فهش وبش ووجّهني مباشرة لمقابلة أستاذ ذي أصول مصرية حاصل على الجنسية السويسرية، يقيم في جنيف ويأتي للتدريس في الجامعة ثلاثة أيام في الأسبوع هو البروفسور أنور لوقا، (1927- 2003 م).
كان اللقاء غاية في الأهمية تجاذبنا أطراف الحديث فوجدت فيه أستاذا كبيرا ومترجما من أبرع المترجمين من الفرنسية وإليها وحرر لي على الفور وثيقة رضا عن المستوى اللغوي والعلمي اتجهت بها إلى البروفسور رومان فوجهني بعد التأشير بالموافقة على ترشيح البرفسور لوقا إلى سكرتيرة القسم التي قالت: تم الأمر وعليك الالتحاق بالدروس مع بداية العام الدراسي عام 1985م. شعرت حينئذ أنني أمام تحد جديد لإثبات الذات فبدأت القراءة والاستفسار والاقتناء في مجال اللغة والأدب الفرنسي. فكيف سارت الأحوال؟ هذا ما ستقوله الشذرة القادمة. ولنا لقاء.