سراب الصبيح
«تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة.»
- عمر بن الخطاب.
أن تتحدث عن ابن الخطاب فتقول إنه في زمرة الذين رضي الله عنهم إذ بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة، وإنه صحابي جليل، وثاني الخلفاء الراشدين، ومؤرخ التقويم الهجري، وجامع القرآن؛ فهذا لعمري جل المسلمون يعرفونه، لكن اللغة من الندرة أن تُعرض مكامنها في عقل عمر.
إني لا أميل إلى القول إن عمر رجل كل شيء، لكني أقول إن القوة تختلف تجلياتها في الرجال، فهي في خالد بن الوليد قوة سيف، وهي في المتنبي قوة كلمة، وهي في ابن الخطاب قوة «عقل»: ما يسمى في عصرنا الراهن «قوة شخصية»، وإني لا أرى -إلا كما قلت سابقاً في كتابي «صراع مع اللغة»- إلا أن الإنسان يفهم الحياة من خلال لغته، ولما كانت لغة عمر بن الخطاب هي اللغة العربية كان عقله بهذه القوة -بإذن من الله وهبة-، وأيما لغة هي لغة عمر.
كفى بعقل عمر اللغوي قوة أن القرآن تنزل مؤيداً أفكاره في غير موضع، فسبحان الله! إن قول عمر الآنف لا يعد عبارة أدبية فحسب نعتز بها في اليوم العالمي للغة العربية وما شابه، بل إن قوله هذا يعد المؤسس لعلم اللغة، لا في جانبها النحوي التركيبي، بل في بُعدها الإنساني، وإنه قول سابق بمسافات زمانية شاسعة على أن يُؤسَّس هكذا فكر. على أني أشير أني أظن أن لفظة «اللغة» لمّا تزل غير موجودة عندهم، فالقرآن سماها «اللسان»، وفي قول عمر ذكرها بالعربية دون لفظة «اللغة» وإني أميل إلى اصطلاح «اللسان» أكثر منها؛ لأنه عضو يتصل تحركيه بأوامر الدماغ الذي ينطق باللغة من جهة، ومن الأخرى يتصل بالعقل الذي تتجلى به اللغة، وعمر قال «العربية» ولم يقل اللسان العربي؛ وأرجح أن السبب في ذلك يعود لشعور منه أنه أراد بعدها الماورائي في فهم الحياة من خلالها، أي: في تجليها بالروح لا التحدث بها فحسب.
«تثبت العقل وتزيد في المروءة»! لم يشر عمر إلى غاية تعلم العربية لتقويم الفصاحة، والخطابة بالناس، وما أشبه ذلك، بل أشار إلى تجليات السمو في تعلمها في البعد الإنساني على الصعيد العقلي الخاص بفردانية الإنسان، ومن ثم انعكاسه على الجانب الأخلاقي المتجلي في قوام المجتمع على قيم المروءة.
فإن القوة في اللغة العربية من شأنها أن تنعكس بالقوة على نفسية الإنسان، النفسية التي تتجلى في العقل وتنطلق منه، فإن العقل الذي تفيض به العربية يثبت، وتزيد المروءة في نفسه، وتظهر هذه الأثار في نفسيته التي هي جزء من أخلاقه.
فنحن أمام قول عمر لسنا إزاء قاعدة لغوية على طراز التنظير، بل إزاء فلسفة لغوية، تمتد من اللغة إلى الفضاء الخارجي، كما تمتد من الفضاء الخارجي إلى اللغة التي يدركها العقل لا يتحدث بها فحسب؛ فتتأتى للإنسان القوة.