عبدالله العولقي
كان المتنبي يدرك تماماً أن الأنا المتعمقة بين ثنايا شعره تشكل مصدراً لعلاقة توتر بين نفسه والآخرين ، بما فيهم الأمير سيف الدولة ، وكان يسعى بصورة او بأخرى إلى أن يتقبل الآخر وبصورة طبيعية هذه الأنا المتعالية ، وحتى يفهم الدارس شعر المتنبي وما وراءه ، فالجزء الأهم في هذه الدراسة هي الأنا والتي لا شك أنها نشأت مع المتنبي كشخصية منذ ولادته وحتى وفاته ، لقد كان يدرك مع ذاته مدى وحجم موهبته في قول الشعر ، فأراد أن يسخر هذه الموهبة لإرضاء الأنا القلقة بين ثنايا روحه ، وعندما أراد أن يمدح سيف الدولة استأذنه بالإنشاد جالساً خلافاً عن العرف وعن باقي الشعراء ، فالأنا المتعاظمة في نفسه تفرض عليه أن يتميز عمن حوله من بقية الشعراء أو مجموعة القلم من الشعراء إن صح التعبير ، كان هذا التميز الذي منحه سيف الدولة للمتنبي يشعل الغيرة في فؤاد الآخر ، هذا الآخر الذي ما فتأ في إحداث الوقيعة بين السيف والقلم ، بين راعي المجلس والشاعر المتمرد ، طيلة التسعة أعوام التي مكثها الشاعر في بلاط أميره ، وحتى نفهم حجم وعدد هذا الآخر فيكفي أن ندرك أن مجلس الأمير سيف الدولة الحمداني من أهم مجالس الخلافة في التاريخ الإسلامي .
هذه المقدمة الموجزة كانت مهمة للتطرق لآخر مجلس جمع بين المتنبي وسيف الدولة بعد عشرة صداقة استمرت ما يقارب التسعة أعوام ، كان يجمع الشخصيتين الإعجاب المتبادل ، كان المتنبي يرى في سيف الدولة الحلم الذي يراود نفسه تجاه الحكم والسلطة والنفوذ ، وكان الحاكم العسكري يرى في المتنبي الشاعر الموهبة الذي يدون سيرته وتاريخه وانتصاراته العسكرية ، فلو نظرنا حول علاقة السيف بالقلم التي جمعت بين الشخصيتين وتساءلنا من خدم الآخر أكثر ، فلا شك أن سيف الدولة قد استفاد من هذه العلاقة أكثر من المتنبي ، فقد خلده المتنبي بأشعار إبداعية خاصة تميزت عما سواها في ديوانه حتى أطلق عليها بعض النقاد بالسيفيات ، تمييزاً لها عن باقي شعره ، والمتأمل لهذه السيفيات يجد العامل المشترك بينها وبلا أدنى شك العاطفة الصادقة ، فقد كان المتنبي يحب سيف الدولة حقيقة ، ولا يمدحه تزلفاً من أجل المصلحة المادية فحسب ، وإن كانت متحققة في شخص المتنبي نسبياً ، بيد أن العاطفة الصادقة تتغلب عليها في حمص دون سواها ، ولذا نجد أن درجة تلك العاطفة تتضاءل نسبياً بين مدائحه الأخريات.
يدخل المتنبي مجلسه الأخير مع سيف الدولة ، و يتأمل وجوه الحاضرين ويلمح من قسماتهم ابتسامات النصر بعد أن نجحوا في إحداث الوقيعة بينه وبين الأمير سيف الدولة ، وهنا تتفجر إبداعاته التي تضج بعاطفة الألم والحسرة عن الفراق بميميته الشهيرة :
واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بحالي وجسمي عنده سقم
لكن السؤال هنا ،، هل أعد القصيدة من قبل ثم جاء إلى مجلسه الأخير مع سيف الدولة لينثرها أمام الملأ أم أن الإلقاء كان مرتجلاً في ساعته بعد أن أغاضته الإبتسامات الساخرة التي لمحها في تلك الوجوه ، فقد كان أغلب رواد المجلس من أعداء المتنبي والحاقدين على تلك المكانة المميزة التي منحها له سيف الدولة وميزه عنهم ، فتذكر كتب التاريخ من تلك الأسماء الشاعر كشاجم ، بضم الكاف ، وهو شخصية موسوعية بثقافة ذلك العصر ، وهو أبو الفتح محمد بن محمود بن الحسين بن السندي بن شاهاك ، ولد في الرملة بفلسطين ، تعود أصوله إلى فارس ، نبغ في علوم متعددة ، أطلق عليه لقب كشاجم كتعبير عن حالته الموسوعية ، فالكاف يدل موهبته في الكتابة ، والشين يدل على الشعر ، والألف على الإنشاء ، والجيم على علم الجدل ، والميم على علم المنطق ، وبين المتنبي وكشاجم نقاط مشتركة كثيرة ، فكلاهما قد طغى اللقب على الإسم في الشهرة ، كشاجم والمتنبي ، وكلاهما تحضر الأنا في الشخصية ، وكلاهما مبدع في الشعر ، فلكشاجم ديوان شعري مطبوع يدل على موهبته الجميلة في قول الشاعر ، ويقال أيضاً أن كشاجم تمكن في الطب في آخر عمره فلقب ، بـ طكشاجم ، وقد امتهن كشاجم مهنة التعليم ، فكان مدرساً لأبناء أمراء بني الحمدان ، فكان معلماً لأبناء الطبقة العليا في الدولة ، ولأن المتنبي قد بلغ مكانة كبيرة في ذلك العهد ، سواءً في المال أو في النفوذ ، فقد ألحق ابنه المحسد تلميذاً في مدرسة كشاجم أسوة بباقي أبناء علية القوم ، وعلى الرغم من تلك العلاقة بين الشاعرين إلا أن كشاجم كان منضماً إلى فريق كارهي المتنبي وحاسديه في مجلس سيف الدولة ، ربما لأن موهبته الشعرية لا ترقى إلى موهبة المتنبي فكان للحسد دوراً في ذلك .
يضم فريق الحاقدين على المتنبي أيضاً ، الشاعر الكبير أبو فراس الحمداني ، ابن عم الأمير سيف الدولة ، وهو شاعر متمكن من الدرجة الأولى ، وفارس شجاع إلى درجة التهور ، وقد أوقعته الشجاعة في الأسر ، وقد قال أثناء إقامته في الأسر قصائد بديعة عدها النقاد من روائع الشعر العربي ، ويقال أن ظهوره زمنياً في عهد المتنبي كان سبباً في خفوت اسمه بين الشعراء الكبار ، فشمس المتنبي كانت تخفي نجوم ذلك الزمن ، لولا الدراسات الأدبية المتأخرة التي أعادت لأبي فراس الحمداني حقه واعتباره في الشعر العربي.
ومن أعضاء فريق الحاقدين أيضاً ، ابن خالويه ، عالم اللغة والنحوي الشهير ، وصاحب المؤلفات المتعددة ، لقب بذي النونين ، كان يكره المتنبي بشدة ، ويحاول تصيد أخطاء المتنبي في شعره أمام سيف الدولة ، وقد بلغ به الحقد أن جمع كل القصائد التي قيلت في هجاء المتنبي ووثقها في كتبه ، ومن الحاقدين أيضاً ، ابن خلكان ، قاضي القضاة ، وصاحب كتاب وفيات الأعيان ، أحد أشهر كتب التراجم العربية ، وهو عالم ومؤرخ ولغوي مشهور له مكانة سامية في التاريخ الإسلامي ، ومن الحاقدين أيضاً ، الشاعر أبي الفرج الببغاء المعروف ، والشاعر الوأواء الدمشقي ، والفيلسوف الشهير الفارابي ، والواعظ ابن نباته ، والأديب الكبير أبي الفرج الأصفهاني صاحب الموسوعة الشهيرة كتاب الأغاني ، حيث أهدى الكتاب إلى سيف الدولة ، وتتباين المصادر حول التقائه بالمتنبي ، لكن الأكيد أنه كان كارهاً للمتنبي ولا أدل على ذلك من إغفاله ذكر ترجمته في كتابه على الرغم من ذكره شعراء مغمورين لا أحد يعرف عنهم شيئاً !!.
وللقارئ الكريم أن يتخيل ضخامة هؤلاء الأعلام وهم يؤلبون صدر الأمير على شاعره الأثير ، وكيف للمتنبي وهو يدخل المجلس ويرى هذه الإبتسامات الحاقدة وهي تقول له لقد نجحنا في مهمتنا ، وليس لك مكان عندنا في مجلس سيف الدولة ، فتتدفق شاعريته العظيمة ليقول وداعيته الشهيرة في ذلك المجلس ،، أما فريق المحبين للمتنبي فكانوا قلة ، ولا يشكلون مفهوم الند أمام فريق كارهيه ،، حيث كان منهم ابن جني ، عالم اللغة الشهير وصاحب كتاب الخصائص وشارح ديوان المتنبي ، وأبو علي الفارسي ، عالم اللغة المعروف ، وربما غيرهم ولكن مما لا شك فيه أن محبيه قليلون في المقارنة ، ولم يشكلوا ذلك الأثر الكبير في المجلس مثلما فعل كارهوه والحاقدين عليه .
في هذه القصيدة يستشف القارئ شيئاً من الحالة النفسية الصعبة التي كانت تعتري الشاعر في زمنه الأخير مع أميره ، بعض الباحثين أطلق على تلك الحالة : التفرد العاطفي أو عقدة الإهمال إن صح التعبير ، فبعد المحبة العميقة التي كانت تجمع بين الأمير والشاعر ، بدأت جفوة صعبة سببها الوشاة الذين يمتلأ ويعج بهم المجلس ، هذه الجفوة أحدثت في نفس الشاعر حساسية متطرفة تجاه هذا التحول العاطفي الحاد ، وبالتالي يمكن النظر إلى هذا المحرك النفسي كأداة تحليلية في تفسير نص هذه القصيدة الشهيرة ، ولأن ميميته تعد الأخيرة في مجلس الأمير ، فقد كثف المتنبي الأنا بصورة مزدحمة بين ثنايا القصيدة ، صورة الإعتداد بالنفس بدرجة مفرطة وكأنها ردة فعل لتلك النظرات الحاقدة التي انتصرت عليه :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
وتبلغ الأنا سموها في محاولة المتنبي إغاضة حساده بالحديث عن موهبته الخارقة والأسطورية في قول الشعر والقافية :
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولا يخفي المتنبي أيضاً، حبه لأميره، ويذكره في بداية القصيدة :
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
ولكنه ينتقل بعد ذلك ليوجه عتابه الحاد لأميره حينما أرخى أذنه لحساده :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام ، وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وبين ثنايا اللوم والعتاب ، يصرح المتنبي بفراقه وبعده عن مجلس أميره ، فعزة نفسه لا تمكنه من البقاء بعد اليوم :
يا من يعز علينا أن تفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم ، فالرحلون هم
هذا عتابك إلا إنه مقة
قد ضمن الدر إلا إنه كلم
تذكر بعض كتب التاريخ ، حكاية مختلف في صحتها التاريخية ، أن سيف الدولة بعد أن رأى تضخيم الذات والأنا المتعالية في هذه القصيدة رمى المتنبي بمفتاح في رأسه حتى سال الدم على وجه الشاعر ، وفي رواية أخرى أن ابن خالوية هو من شج رأس المتنبي ، وأن ردة فعل الأمير كانت الإبتسامة ، فارتجل المتنبي -كردة فعل-:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
كم تطلبون لنا عيباً فنعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
لقد كان المتنبي يعي هذا الحسد عند هؤلاء ، ولطالما عاتب أميره بسكوته عن تمادي هؤلاء الحاقدين عليه ، بل إنه صرح في مناسبة سابقة ووجه خطابه مباشرة للأمير بأنه السبب في وجود هؤلاء :
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
ولم يصرح المتنبي في ميميته عن مكان توجهه المستقبلي ، وربما لم يكن قد قرر بعد ، هل سيتوجه شرقاً نحو بني بويه في بلاد فارس ، أم غرباً باتجاه مصر وحاكمها كافور الأخشيدي ، لكنه أبان عن قلقه في تغيير المكان وعدم وجود الصديق الوفي :
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
قصيدة تعد من روائع الأدب العربي ، وهي خاتمة شعر المتنبي في حلب وفي مجلس أميره سيف الدولة ، فيها من العتاب الحاد الموجه للأمير حينما أصغى لقول حساده ، وفيها تعريض للرحيل عن هذا المجلس ، وفيها تحضر الأنا التي وظفها المتنبي داخل القصيدة بكثافة وتعمد ، وكأنه يقول لأميره سأجعلك تفتقد لشاعريتي الخارقة التي لن تجدها أبداً لدى هؤلاء الحساد ، وهو في هذه الحالة يحمله المسؤولية أمام التاريخ:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم ، فالراحلون هم