عبدالعزيز القاضي
قال الشاعر عبدالعزيز بن إبراهيم السليم (ت 1410هـ):
يا عِنْقِ رِيمٍ فِرِيدُ وحُوشْ
تَوُّه بِسِنَّ الجَهَلْ ناشِي
الهْجَيْنِي فن غنائي ينشده المسافرون وغيرهم على ظهور «الهِجِن» وهي الإبل الأصيلة، فيستعينون به على طرد النوم والكسل والتعب والملل، كما أن الإبل تستأنس به، وتأنس له، وتحب سماعه(1) كما يغنى في المجالس، وفي شتى الأحوال. والتغني بالشعر على ظهور الإبل معروف في الشعر العربي القديم، وهو نوعان: الأول يسمونه (النَّصْبُ) وهو المعروف باسمه الأشهر (الحُدَاءُ)، وهذا لا يكون إلا على ظهور الإبل أو الخيل، لأن (الحداء) في اللغة هو: سِوْقُ الإبل، وحثها على السير بالغناء، فهي تنشط عند سماعه وتمد أعناقها لتصغي إلى الحادي. والثاني يسمونه (الرُّكْبانِيَّة)، جاء في (كتاب النقائض) أن أبا جعفر علق على أبيات لعميرة بن طارق(2) التي أولها (على الطويل):
ألا أَبْلِغا أبا حِمارٍ رِسالَةً
وأَبْجَرَ أَنِّي عَنْكُما غَيْرُ (غافِلِ)
ومنها:
نَهَيْتُكُمُ حتّى اتَّهَمْتُمْ نَصِيحَتِي
وأنْبَأْتُكُمْ في الحَيِّ ما أنا (فاعِلُ)
قال(3): «قال أبو جعفر إذا قال أحدهم بالرُّكْبَانِيَّةِ فقد أكفأ، والركبانية أن يتغنى به ويقطع كما يقطع العروض». وقال الأستاذ محمد الحمدان تعليقًا على هذا(4): «ومفهوم هذا أن الركبانية التي هي نوع من الشعر هي ما يعرف الآن باسم (الهجيني)، ومعروف أن الهجيني هو الغناء الذي يتغنى به ركبان الهجن، وهي خيار الإبل. و(الإكفاء) هو اختلاف حركات الرَّوِيِّ، مثل (الإِقْوَاءِ). وكما هو واضح من شعر عميرة من تخالف إعراب القافية»ا.هـ. قلت: هذا ليس (إكفاءً) بل إقواء؛ لأن (الإكفاء) أن يؤتى في البيتين من القصيدة بروي متجانس في المخرج لا في اللفظ، نحو (شارح- وشارخ) أو (فارس- وقارص)، أما (الإقواء) فاختلاف حركة الروي بين الكسر والضم، وقد ورد الروي في أبيات عميرة تارةً مكسورًا في (غافل) وفي أبيات أخرى في القصيدة، وتارةً مرفوعًا في (فاعل) وفي أبيات أخرى أيضًا.
وذكر الدكتور فضل العماري(5) أن الغناء البدوي قسمان: الأول (النصب)، وهو كما يقول غناء دخلته بعض التحسينات، إذ يعد غناءً مهذبًا، موزونًا تبعًا لعروض الشعر القديم، ويسميه إسحق الموصلي (الغناء الجنابي) نسبةً إلى رجل من كلب اسمه جناب بن عبدالله بن هبل، وأنه يخرج من أصل الطويل في العروض. والثاني (غناء الركبانية) وهو أقرب أنواع الغناء المرتجل لدى المغني القديم. ونقل العماري عن ابن الأعرابي قوله: «كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها». قلت: أما غناء (النصب) فهو حداء الإبل، والحداء لا يكون إلا من بحر (الرَّجَزِ) أو مما قارب بحر الرجز، كـ(البحر السريع). وأما الغناء (الركباني) فهو، وفق وصف ابن الأعرابي له - وكما ذكر الحمدان - سلف (الهجيني) من الشعر الفصيح، غناءً لا وزنًا، لأنه يكون في الأغلب من البحر الطويل. قال أبوعبدالرحمن ابن عقيل(6): «وإن الحداء في الشعر العامي لتطريب الخيل، أما تطريب الإبل فيكون بألحان الهجيني».
وجزم الدكتور محمود مفلح البكر - بلا دليل! - أن (الهجيني) بدوي النشأة، ونسبه في عنوان كتابه إلى البدو!(7) وربما كان (الهجيني) في العراق والشام وفلسطين والأردن منتشرًا في المجتمعات الريفية (البدوية)، لكنه في نجد والحجاز والساحل الغربي والخليج، رائج عند الحاضرة والبادية على حد سواء، ولعل منشأه حضري، فأقدم أوزان الهجيني ونصوصه المحفوظة، نقلت عن شعراء من الحاضرة، فالشاعر الكبير محمد ابن لعبون (ت 1247هـ) له أكثر من ثلاث عشرة قصيدةً جاءت على (وزن الهجيني)، لكنها تغنى على ألحان السامري والحوطي والخماري وغيرها. وابن لعبون هو رائد الأوزان الغنائية، وإليه تنسب بعض الفنون الغنائية. والشاعر عبدالعزيز المحمد القاضي (ت 1308هـ) له قصيدة على وزن الهجيني، مطلعها:
حَيَّ المَنازِلْ بَعَدْ ما قُولْ
اللهْ يِسامِحْ لَأهَالِيهِنْ
والهجيني في أساسه (غناء)، وكان ينظم على وزن واحد هو (مجزوء البسيط الأحذ)، وتفعيلاته (مستفعلن فاعلن مستف)، وقد يكون شطره الأول (مجزوءًا مقطوفًا) وهو الأكثر. وإن شئت فقل إنه من (مخلع البسيط المخروم)، وتفعيلاته (مستفعلن فاعلن عولن)، وقد يكون شطره الأول (مخرومًا مذيلًا) قال الشاعر:
أُمَّا أنْت هَيْجِنْ إلى هَيْجَنْتْ
وِإلَّا أنْت عَنْ فاطِرِي حَوِّلْ
مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مُسْتَفْعْ
مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مُسْتَفْ
وعلى بحر (الهجيني القصير) تنظم (الكسرات) في الساحل الغربي من المملكة؛ لكنها لا تسمى (هجينيات) بل (كسرات)؛ لأنها تعتمد في موضوعها على (الشكوى والجواب)، والهجيني ليس فيه جواب. ثم توسع المتأخرون في تعميمه على بعض بحور الشعر. فهو في الأساس - كما ذكرنا - لحن ووزن شعري، فلما توسعوا فيه أخذوا منه الاسم ولم يلتزموا بوزنه بل أضافوا إليه ألحانًا أخرى على أوزان مختلفة. وذكرنا من قبل أن الخلط بين الألحان والأوزان من أهم الأسباب التي أورثت التخبط في تحديد بحور الشعر النبطي، وفي الخلط بين الهجيني والقصيد في الغناء. ومنهم من أدخل في الهجيني بعض الألحان من (بحر الرمل) ومن (بحر المتدارك) وهو ما يسمونه (الرَّجْد)، ومن (بحر الممتد) وغيرها(8). كما جعلوا منه كل شعر على البحر البسيط، كـ(الهجيني الطويل)، أو على البحر البسيط (المجزوء) كـ(الهجيني المتوسط). واعتاد أكثر الناس أن ينسبوا القصائد ذات الأوزان القصيرة إلى (الهجيني)، فكل شعر قصير الوزن هو عندهم (هجيني)، يقول شفيق الكمالي(9): «ليس لهذا النوع من الشعر أوزان محددة كما هو الحال بالنسبة للحداء والسامري». قلت: وهذا يدل على غموض هذا اللون الشعري لدى كثير من الناس بمن فيهم كبار الباحثين في مجال الشعر النبطي كعبدالله ابن خميس (ت1432هـ) وشفيق الكمالي (ت 1404هـ) وغيرهما. والبحور الطويلة يأتي منها أوزان قصيرة أيضًا بل أقصر من وزن الهجيني، فكما أن القصائد تأتي على أوزان تامة فإن بعضها يأتي أحيانًا (مجزوءًا)، كما يأتي (مشطورًا)، أو (منهوكًا) أيضًا. كما أنهم يسمون غناء الشعر (هيجنه) حتى ولو كان الشعر المغنى من البحور الطويلة. والهيجنه لا تعني بالضرورة أن المغنى من الهجيني، فـ(الهيجنه) عندهم لفظ مرادف لـ(الغناء). وإنما العبرة بالوزن والغناء معًا. فما كل ما جاء على وزن الهجيني من الهجيني، وما كل ما سمي وزنه بـ(الهجيني) كـ(الهجيني الطويل أو المتوسط) هو من الهجيني، فما بالك بما يجيء على أوزان الرمل أو الممتد أو المجتث أو غيرها، مما ينسب إلى الهجيني!
والهجينية في أصلها مقطوعة شعرية نظمت لتغنى لا لتلقى، ولا يتجاوز عدد أبياتها -في الغالب- أصابع اليد، فهي (مقطوعة) لا (قصيدةً). يقول الدكتور محمود مفلح البكر إن الهجينية(10): «دفقات شعورية مرهفة، من بيتين أو ثلاثة على الأغلب، وربما تصل بعض الهجينيات إلى السبعة أو أكثر، وربما تزيد على عشرين بيتًا أو ثلاثين أحيانًا في الهجينيات التي ينظمها الشعراء المحترفون، فتظهر لمسة الصنعة واضحة». قلت: وهذه القصائد التي تأتي على وزن الهجيني إنما هي قصائد جاءت على وزن الهجيني لكنها ليست هجينيات، ولا مشاحة في هذا، وليست خاصةً بالشعراء المحترفين كما يقول البكر، بل ينظم عليها كل الشعراء، (الشاعر) منهم و(القصاد) و(الناظم)، ينظمون عليها لأنها بحر شعري (وزن)، لا لأنها شيلة (هجينيه). أما القصائد التي تأتي على وزن (الهجيني المتوسط) أو (الهجيني الطويل) فهي أيضًا قصائد لا هجينيات، وإن غنيت فإن غناءها يأتي على ألحان أخرى كـ(السامري) وغيره. وذكر الخالدي لـ(الهجيني القصير) أربع صياغات، هي(11):
(الأولى): وهي الأشهر والأكثر، ومثل لها بقول عبيد الرشيد (ت 1288هـ):
يا حْمُودَ انَا عَارِضِي شَابِي
طَرْدَ الهَوَى جِزْتَ انَا مِنَّهْ
(مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْ
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْ)
وهو عنده من (البحر البسيط) المجزوء الأحذ(12)، وهذه الصيغة لـ(الهجيني القصير) هي المعروفة المشهورة.
و(الثانية): صيغة (البحر المجتث)، ويرى أنها هجيني قصير، نقص منه سبب، ومثل لها بقول رسوى المفرجية رحمها الله:
هَرْجَهْ حَدِيثٍ يِسَلِّي
رِيقَهْ يِداوِي السِّقامَى
(مستفعلن فاعلاتن
مستفعلن فاعلاتن)
و(الثالثة): صورة مشطور البحر البسيط (مستفعلن فاعلن)، وذكر أنه نادر الاستخدام، ومثل له بقول الأمير ماجد الحمود الرشيد:
يا دَارِ وَينَ الحَبِيبْ
اللِّي سَلامُهْ هَلا
(مستفعلن فاعلان
مستفعلن فاعلن)
و(الرابعة): ما جاء منه على الوجهين، أي أن شطره الأول (سالم) من الزحاف والعلة: (مستفعلن فاعلاتن)، والثاني دخله (الحذف): (مستفعلن فاعلن)، كقول الشاعر الإماراتي محمد بن أحمد بن خليفة السويدي:
يَكْفِي صُدُودَكْ مَعَايا
والسُّخْرِيَهْ والجِفا
(مستفعلن فاعلاتن
مستفعلن فاعلن)
ونقول: إذا كانت كل هذه الصيغ تسمى عندهم: (الهجيني القصير)، فإننا نرى أن (الصيغة الأولى) هي وحدها صيغة الهجيني المتعارف عليه، أما بقية الصيغ فليست مما يسمونه (الهجيني الشمالي)(13)، وسيأتي البيان. وإذا كانت مقطوعات (الهجيني) المعروف، كبيت عبيد الرشيد السابق، وكهذه الهجينية التي نسبت لعدد من الشعراء:
يالعَينْ لِكْ بَالْهَوَى لَفْتِهْ
مَنْتِي على دِينَ الِاخْوَانِي
هُو مِعْجِبِكْ وَاحِدٍ شِفْتِهْ
عُودِهْ مِنَ الزَّيْن رَيّانِي
شِفْتِهْ وحِفْتِهْ ووَالَفْتِهْ
قَفَّى بقَلْبِي وخَلَّانِي
... إلخ، إذا كانت تأتي على (مجزوء البحر البسيط الأحذ) كما يقول الخالدي، أو على (مخلع البسيط المخروم) كما ذكرنا. فإنها توزن أيضًا على بحر (المجتث المرفل). وقد أشار الخالدي إلى هذا الاحتمال(14)، غير أنه رجح أن ينسبه إلى (مجزوء البسيط) مراعاةً لـ(الهجيني الطويل) الذي هو بحر البسيط الوافي في الشعر العربي. ونحن نستبعد نسبته إلى (المجتث) أيضًا، ولكن لسبب غير الذي ذكره، وهو ما في النسبة إليه من ظاهر التكلف والتعسف. أما (الهجيني الطويل) فنرى أنه ليس من الهجيني (الوزن) وإن سمي بذلك. فـ(الهجيني) إذا أطلق إنما يراد به ما جاء على وزن (مجزوء البسيط الأحذ)، ولك أن تقول إنه على (مخلع البسيط المخروم). والخلاف في النسبة إلى مجزوء البسيط أو إلى مخلعه إنما هو خلاف في أصل التفعيلة الأخيرة لا في الوزن، لأن الوزن متطابق تطابقًا تامًا، فهي إما (مستف) وأصلها (مستفعلن) ولكن دخلها الحذذ، أو هي (عولن) وأصلها (فعولن) ولكن دخلها (الخرم). و(مخلع البسيط) بحر يكاد يكون مستقلًا عن البحر البسيط، ويقال إن الخليل لم ينسبه إلى (البسيط) بل سماه (المخلع) فقط.
أما بقية صياغات (الهجيني القصير) الأخرى التي ذكرها الخالدي، فنرى أنها كلها من بحر (المُجْتَثِّ) مع اختلافها في (الأعاريض والأضرب) وهي ما يسميها (الصياغة). ولا علاقة لها بالهجيني إلا من حيث الغناء، على اعتبار أن (الهجيني) (غناء)، وأن الفن - ومنه الهجيني - يمكن أن تغنى ألحانه على عدد من البحور. لذا نقول إنها من الهجيني (غناءً) لكنها ليست هجينيةً (وزنًا). والقصائد تغنى على ألحان وفنون مختلفة، فعلى سبيل المثال: قصيدة (غَرِيمٍ بالهَوَى رُوحِي على طِفْلٍ قِطَف رُوحِي) لمحمد العبدالله القاضي (ت 1285هـ) وهي من (بحر الهزج). وقصيدة (يا هَلَ العَيْرَاتِ بَاكِرْ كان مَرَّيْتُوا طَوَارِفْ خِلِّي) لابن دويرج (ت 1356هـ) وهي من مطور (بحر الرمل). وقصيدة (سَرَى البارِقَ اللِّي له زِمانَيْنِ ما سَرَى) لابن شريم (ت 1363هـ) وهي من (البحر الهلالي). وقصيدة (يا حَمامَهْ غَرِيبَهْ عِنْدِ بابَ السَّلام) لعبدالله اللويحان (ت 1402هـ) وهي من (بحر الممتد). وقصيدة (يا عِنْقِ رِيمٍ فِرِيدُ وْحُوشْ) لعبدالعزيز البراهيم السليم (ت 1410هـ) وهي من (الهجيني القصير)، وغيرها. كلها تغنى على ألحان السامري والحوطي وبـ(شيلات) متعددة أيضًا، مع أنها من بحور مختلفة كما رأينا، حتى مقطوعات الهجيني الأصلي تغنى أيضًا على ألحان غير ألحان الهجيني المعروفة. وهجينية عبدالعزيز السليم، التي صدرنا بمطلعها هذا الحديث، وهو:
يا عنق ريمٍ فِريدِ ووحوشْ
تَوُّهْ بسِنَّ الجَهَلْ ناشي
تغنيها فرق عنيزة الشعبية على ألحان السامري والحوطي، وغناها الفنان حمد الطيار بلحن مبتكر مشتق من إيقاعات السامري الذي يسميه أهل عنيزة (الحوطي)(15). ولا شك في أن الألحان تغمر الأوزان كثرةً، وهكذا فـ(السامري) و(الحوطي) و(الفن اللعبوني) و(الهجيني) و(الرفيحي) و(العرضة) وغيرها، إنما هي فنون و(ألحان) لا بحور و(أوزان)، وبعضها يصحبه رقصات. غير أنهم تواضعوا على أن ما يأتي على (البحر البسيط) يسمى (الهجيني الطويل)، ويظهر أنهم لاحظوا أن الهجيني الطويل والمتوسط والقصير كلها تبدأ بـ(جملة موسيقية) واحدة على (مستفعلن فاعلن) [/5/5//5 - /5//5] غير أن هذا طويل وهذا قصير، لذلك سموا الكل (هجيني) قياسًا على وزن الهجيني الأصلي، وهو: (مستفعلن فاعلن مستف) [/5/5//5 - /5//5 - /5/5](16). أما قصيدة رسوى المفرجية التي منها هذا البيت:
هَرْجَهْ حَدِيثٍ يِسَلِّي
رِيقَهْ يِداوِي السِّقامَى
فهي من (بحر المجتث) السالم من الزحافات والعلل، لأنها جاءت على:
(مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلاتنْ
مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلاتنْ)
ومثلها قصيدة عبدالعزيز القاضي التي أولها:
غِصْنٍ مِنَ البانِ مَيّاسْ
تَلْعَبْ بُهْ الرِّيحِ طِفْلِي
فهي من (المُجْتَثّ) أيضًا غير أن عروضها دخلها (التسبيغ)، وهو زيادة حرف ساكن على ما آخره سبب خفيف. وهذه هي تفعيلاتها:
(مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلاتانْ
مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلاتنْ)
والتسبيغ في الشعر النبطي كثير جدا. وقصيدة ماجد الحمود الرشيد التي أولها:
يا دَارِ وَيْنَ الحَبِيبْ
اللِّي سَلامُهْ هَلَا
من (المجتث) أيضًا، غير أن عروضها جاءت مقصورة، و(القصر) حذف ساكن السبب الخفيف من آخر التفعيلة وإسكان المتحرك قبله. و(ضربها) جاء محذوفًا. وهذه تفعيلاتها:
(مستفعلن فاعلات مستفعلن فاعلن)
وقصيدة محمد السويدي التي منها هذا البيت:
يَكْفِي صُدُودَكْ مَعايا
والسُّخْرِيَهْ والجِفَا
من (المجتث) أيضًا، وعروضها سالمة، لكن ضربها محذوف:
(مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلاتنْ
مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلنْ)
و(البحر المجتث)(17) من بحور الشعر العربي الفصيح، وهو قليل في الشعر الفصيح، ونادر في الشعر النبطي. وذكر الخالدي في (طواريق النبط ص43) أنه من البحور الفصيحة التي لم تستخدم نبطيًا، غير أن صياغته موجودة في بعض صياغات (الهجيني القصير). ولا يخفى ما في قوله: «غير أن صياغته موجودة في بعض صياغات (الهجيني القصير)»، من التناقض! ويقصد بالصياغة هنا (الوزن) فهو عنده لم يستعمل في الشعر النبطي لكن صياغته موجودة! ونظن أن التهيب من نسبة هذا الوزن - تحديدًا - إلى بحر المجتث، سببه (سطوة المصطلحات) لدى مجتمع الشعر النبطي. ونحن نرى ونقول جازمين وبلا مواربة: إن الأبيات أو القصيدة التي تأتي على هذا الوزن إنما هي من بحر المجتث قولًا واحدًا، ونسبتها إلى (الهجيني) إنما هي نسبة إلى معناه الواسع الذي يشمل كل وزن قصير! وإلا فإن الهجيني ليس له سوى وزن واحد، هو (مستفعلن فاعلن مستف). وهو كما يقول الدكتور محمود البكر(18): «فن غنائي مستقل بذاته، يختلف عن القصيد، على الرغم من أن الهجيني والقصيد يلتقيان في إطار الشعر الشعبي الذي يضم فنونًا عديدة». ونقول إنه (الشعر النبطي) لا (الشعبي). وفي حديثه عن (اختلاف الهجيني عن القصيد) خلط بين (الألحان) و(الأوزان)، وذكرنا سابقًا أن هذا الخلط سبب من أسباب التخبط في تحديد أوزان الشعر النبطي.
وإذا كان (المجتث) في الشعر الفصيح مجتثًا من (البحر الخفيف) أي منتزعًا منه كما يقولون، فإننا نرى أنه في الشعر النبطي مجتث من بحر (المسحوب) الذي تفعيلاته (مستفعلن مستفعلن فاعلاتن) مرتين؛ لأن البحر الخفيف لا يرد في الشعر النبطي(19). فلو أضفنا إلى بيت عبدالعزيز القاضي السابق كلمةً على وزن (مستفعلن) في بداية كل شطر لصار من المسحوب، كأن نقول:
(يَا مَا حَلا) غِصْنٍ مِنَ البَانِ مَيَّاسْ
(مِتْفَرِّدٍ) تَلْعَبْ بُهْ اَلرِّيحِ طِفْلِي
والخلاصة أن (الهجيني القصير) عندهم يأتي على أوزان متعددة، تعود أصولها إلى بحور مختلفة، وكلها تسمى عندهم (هجيني)؛ لأن هذا المصطلح يعني (اللحن) وقد يعني (قصر الوزن) فهم يسمون كل وزن قصير (هجيني). فالهجيني الطويل هو (بحر البسيط)، والهجيني المتوسط هو (مجزوء البسيط)، والهجيني القصير (في وزنه الأشهر) هو (مجزوء البسيط الأحذ)، أو هو (مخلع البسيط) المخروم. ونرى أن الهجيني ليس له سوى وزن واحد، هو الرائج المشهور، أما بقية الأوزان القصيرة التي تنسب إلى الهجيني القصير التي حددها الخالدي فنرى أنها كلها من (بحر المجتث) لا من الهجيني. كما نرى - أيضًا - أن المجتث في الشعر النبطي مجتث من (المسحوب).
(1) انظر مقالة: (في الغناء البدوي «الهجيني») كتبها أ. محمد بن عبدالله الحمدان، جريدة الجزيرة، العدد 10545، الاثنين 23-5-1422هـ 13-8-2001م.
(2) هو عميرة بن طارق بن حصبة بن أزنم بن عبيد بن ثعلبة، اليربوعي التميمي، شاعر جاهلي، وفارس من فرسان يربوع. انظر: (معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين) تأليف د. عفيف عبدالرحمن، دار العلوم للطباعة والنشر 1403هـ 1983م، ص257.
(3) كتاب النقائض: نقائض جرير والفرزدق) تأليف أبي عبيدة معمر بن المثنى، وضع حواشيه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ 1998م، ص45-47/1، ونقل هذا النص الدكتور فضل العماري في مقالته (الغناء البدوي في الشعر الجاهلي والشعر النبطي) التي نشرتها مجلة الدارة، في العدد الثاني لسنة 1410هـ ص169، كما نقله الأستاذ محمد الحمدان في: (ديوان السامري والهجيني) ص12.
(4) ديوان السامري والهجيني)، إعداد محمد بن عبدالله الحمدان، دار قيس للنشر والتوزيع - الرياض، ط3، 1414هـ 1993م، ص12. وهو كتاب رائد، ومرجع مهم، جمع فيه جامعه أشهر النصوص في هذين المجالين.
(5) الغناء البدوي في الشعر الجاهلي والشعر النبطي)، مقالة كتبها الدكتور فضل بن عمار العماري، مجلة الدارة، العدد الثاني، السنة الخامسة عشرة، المحرم، صفر، ربيع الأول 1410هـ ص168 فما بعدها.
(6) ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد) ج3 ص20.
(7) انظر: (في الغناء البدوي «الهجيني») دراسة ونصوص، محمود مفلح البكر، كتاب الرياض 87، ص19.
(8) ذكر أبوعبدالرحمن ابن عقيل (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي ص137) أن بيت ساكر الخمشي الذي يقول:
وإن ذبحني عشيري بالهوى فدوة له ذبح خلي حلال وذبح غيره حرامي
تفعيلاته هي: (فاعلاتن - فعولن - فاعلاتن - فعولن) وكان قد عد هذا الوزن من بعض الهجيني (ص134). قلت: ولعله معدود من الهجيني غناءً لا وزنًا. لأنه من بحر الممتد، وتفعيلاته ليست على ما ذكر، بل هي: (فاعلن- فاعلاتن- فاعلن- فاعلاتن) في كل شطر؛ لأن (فاعلاتن) لا تجتمع مع (فعولن) في بحور الشعر العربي، الذي نرى أن الشعر النبطي في أوزانه إنما هو امتداد له. كما وزن بيت ابن لعبون (ص144):
يا علي صحت بالصوت الرفيع
يا مره لا تذبين القناع
هكذا: (فاعلن- فاعلن- مستفعلن) وهذا ليس له أصل في بحور الشعر العربي، ونرى أنه (فاعلن- فاعلاتن- فاعلان) فهو من مجزوء البحر الممتد وعروضه وضربه دخلهما (التسبيغ). وقصائد ابن دويرج التي تسمى أوزانها (الطروق الدويرجية) وزنها ابن عقيل في تقديمه لـ(ديوان ابن دويرج)، لجامعه بندر الدوخي، على أوزان ليس لها أصول معروفة ولا غير معروفة، في حين أنها توزن على أوزان لها أصول في بحور الخليل المستعملة والمهملة في دوائره. ولعل هذا ما دعاه إلى أن يقول بثقة متهكمًا: «وبعضهم يدرس الوزن للشعر العامي من خلال بحور الخليل التي صب فيها - مع مستدرك الأخفش - ما أحصاه من أوزان الشعر العربي الفصيح، ويباهي بأن الشعر العامي صنو الشعر العربي الفصيح. فإذا فوجئ بأوزان للشعر العامي تغمر أوزان الخليل تعلل بأن الشعر العامي صنو شعر التراث حيث استجد فيه أوزان مهملة». (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي ص132). ونقول: نعم، هو صنو الشعر العربي الفصيح في (الأوزان) وصنو شعر التراث أيضًا، ويجري عليه من التغيير والتطوير ما يجري على الفصيح. وبعضه يجري عليه تغييرات يسيرة من أثر (الزحافات والعلل)، وبعضه يجري عليه تغييرات كبيرة زيادة ونقصًا في التفعيلات، لكن ملامح أصله الفصيح غير خفية فيه، فهو من (مطورات) تلك البحور، ككثير من (الطروق الحجازية) القديمة، و(الطروق الدويرجية) وغيرها.
(9) الشعر عند العرب، شفيق الكمالي، مطبعة الإرشاد - بغداد، ط1 1384هـ 1964م، ص99.
(10) في الغناء البدوي «الهجيني») ص29.
(11) (طواريق النبط) تأليف إبراهيم الخالدي، الناشر شركة المختلف للنشر والتوزيع - الكويت، ط1، 2000م 1421هـ، ص124-126. ويقصد بالصياغات: (الأعاريض والأضرب). ونرى أهمية الالتزام بالمصطلحات العروضية في التنظير. ومما تجدر الإشارة إليه أنه ألف الكثير من الكتب، ونشر الكثير من المقالات عن (أوزان الشعر النبطي)، وأهمها كتاب (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي بلهجة أهل نجد والإشارة إلى بعض ألحانه) للشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، الذي صدر السفر الأول منه عام 1412هـ، وقد تناول فيه بحرين (وزنين) فقط من أوزان الشعر النبطي على أن يتناول البقية في الأجزاء القادمة. لكنه لم يكمل البحث! والحق أنه كتاب غزير المعلومات، تجلت فيه شخصية مؤلفه الموسوعية، غير أنه كما هي معظم مؤلفاته حفظه الله، يفتقد المنهجية في الترتيب والتبويب. ثم جاء باحثون كثيرون حاولوا حصر أوزان الشعر النبطي، لكنهم كانوا يخبطون فيه خبط عشواء. وأقصى من غاص في هذا المجال من حاولوا حصر تفعيلات بحوره، فعدوا كل اختلاف في الطول والقصر، وكل اختلاف في تفعيلة الوزن الواحد وزنًا مستقلًا، فدخلوا في بحر لا ساحل له، وغاب عنهم وبعضهم أساتذة كبار وباحثون في الأدب والشعر، أن كثيرا من هذا المعدود مرجعه وزن واحد، ولكن اختلفت أعاريضه وأضربه. وكثير منهم جعلوا (الألحان) هي الأوزان، وهذا خلط بين (الغناء) و(الشعر). وقد أطنب أبو عبدالرحمن ابن عقيل في مقدمة كتابه المذكور في إيضاح الفرق بين الوزن واللحن. ثم جاء الباحث الإعلامي الشاعر الأستاذ إبراهيم الخالدي فألف كتابه (طواريق النبط) فأرسى دعائم هذا العلم، ووضع نقاطه على الحروف، وقربه لمجتمع الشعر النبطي الذي معظمه لا يعرف شيئًا عن (علمي العروض والقافية). فرد أوزان الشعر النبطي إلى أوزان الخليل، وذكر أعاريضها وأضربها، وسماها (الطواريق) على تسمية مجتمع الشعر النبطي لها، وبين ما طرأ عليها من التجديد والتطوير لدى بعض الشعراء، بأسلوب (إجرائي موجز واضح)، وهذا هو ما يحتاجه مجتمع الشعر النبطي. ولعل الباحث يعيد النظر فيه فيخرجه في طبعة جديدة مزيدة ومعدلة، فيتم نواقصه، ويعيد صياغته (صياغة علمية) لا إعلامية كما هو حال الطبعة الأولى؛ ليكون أكثر فائدة وجدوى.
(12) (المجزوء) في بحور الشعر: ما حذفت تفعيلته الأخيرة من كل شطر. و(الأحذ): ما دخله (الحذذ) وهو حذف الوتد المجموع من آخر التفعيلة، فـ (مستفعلن) فيه حذفت منها (علن) فأصبحت: (مستف). أما البحر البسيط فيأتي على: (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) في كل شطر، ويسمونه (الهجيني الطويل).
(13) ويسمون الهجيني الطويل: (الهجيني الجنوبي) للتفريق بينه وبين (الهجيني القصير) الذي هو الهجيني الأصلي.
(14) طواريق النبط ص124.
(15) (السامري) في عنيزة، هو (سامري عنيزة) فقط، وهو فن خاص بهم، له ألحان يصاحب غناءها إيقاع خاص ورقصة خاصة، ولا يؤديه غيرهم. لذلك فرقوا بينه وبين ألحان السامري المشهورة التي تغنى في نجد وشمالها وجنوبها، وفي المناطق الشمالية والشرقية، بأن قصروا مصطلح (السامري) على سامريهم المشهور، أما ألحان السامري الأخرى فيسمونها (الحوطي). فـ(الحوطي) في عنيزة هو (السامري) في المناطق الأخرى.
(16) (الألحان) لا تترجم بالحروف والحركات كما هو الحال في (الأوزان)، بل تترجم بالرموز الموسيقية (النوتة).
(17) وتفعيلاته ((مستفعلن فاعلاتن) مرتين. وسمي بهذا الاسم لأنهم يرون أنه مجتث (أي منتزع ومقتطع) من بحر (الخفيف)، فهو في الأصل بحر الخفيف بعد إسقاط تفعيلته الأولى. ولذلك فهو ثنائي التفعيلة في الشطر الواحد (مستفعلن فاعلاتن) في حين أن الخفيف ثلاثي التفعيلة (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن).
(18) (في الغناء البدوي «الهجيني») ص35.
(19) ذكر الخالدي (طواريق النبط 43) أن بحر الخفيف من البحور التي لم تستخدم نبطيًا، واستغرب من ذلك على الرغم من أنه كما يقول «جميل وموسيقي في الفصحى»، ثم ذكر أنه رغب في أن يتعرف على سبب إهماله في الشعر النبطي فنظم عليه بيتين، وقال بعد أن أوردهما: «وواضح جدًا أن موسيقا هذا البحر مرتبكة وسقيمة» قلت: ولعل ارتباك موسيقاه يعود إلى عدم الاعتياد عليه، وإلا فإن الموسيقا لا ترتبك في الأنظمة الصوتية الموزونة، ولا علاقة لثباتها وارتباكها بـ(النظام اللغوي النحوي)، فهي تتعامل بـ(النظام الصوتي) لا (اللغوي)، ولربما لو أن شعراء النبط أدخلوا البحر الخفيف في الشعر النبطي لرأيناه رائقًا هادئًا سلسًا عذبًا كما هو في الشعر الفصيح.