د. سامي بن عبدالله الدبيخي
تشرّفت بتحكيم رسالتي للدكتوراه في مجال «تعزيز العلاقة التكاملية بين تخطيط المدن والنقل» من أحد رواد تخصص «تخطيط النقل الحضري» على المستوى العالمي، البروفيسور فوكان فوتشيك Vukan Vuchic وهو حاصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة بيركلي (كاليفورنيا) وعضو هيئة التدريس بجامعة بنسيلفانيا (فيلاديلفيا) والذي أثرى التخصص بالعديد من المؤلفات لعل أبرزها «النقل للمدن الحيوية» Transportation for Livable Cities وقد عمل مستشاراً للعديد من المدن في أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا وأوربا، كما عمل ممارساً بالعديد من الشركات/ المكاتب الاستشارية.
يجادل فوتشيك في مؤلفه على أهمية إيجاد «علاقة متكاملة ومتوازنة» بين تخطيط المدينة والنقل، وهو ما يستدعي وضع سياسات توجيهية تراعي مبادئ الاستدامة وتتفادى التحيّز لأي وسيلة نقل على حساب الأخرى، وتسعى لتحقيق توازن بين الأنشطة الإنسانية human activities والخدمات services من دون أن يكون للنقل الدور الحاسم في تحديد شكل المدينة وتوسعتها وحيويتها وأنسنتها. وهذا لن يتأتى إلا إذا تمكن المخطط من تحقيق توازن متين ما بين مناطق السكن ومواقع الوظائف ووسائط التنقل/ الوصولية وأيضاً بين وسائط النقل ذاتها، بمعنى تحقيق توازن ما بين الاعتماد على السيارة الخاصة أو النقل العام، وما بين وسائل النقل العام ذاتها أي بين الحافلات والقطارات الخفيفة، وهكذا دواليك. كل هذه التوازنات ستدعم بالمحصلة جودة الحياة وحيوية المدينة وترفع من كفاءة أدائها لوظائفها.
يؤكد البروفيسور فوتشيك بعد دراسات تحليلية معمقة للعديد من منظومات النقل الحضري ومخططات المدن، أنّ الحوكمة الرشيدة وقوة مؤسساتها هي المفتاح الرئيس لضبط هذه التوازنات وتوجيه هذه العلاقات التكاملية لخدمة المدينة وسكانها. ويرى في هذا الخصوص بأن هناك أربعة مستويات لتحديد العلاقة التي تربط النقل بمنظومة المدينة وما يصاحبها من نجاح وفشل وإشكالات. أدنى هذه المستويات و»أقلها تعقيداً» هو المستوى الرابع الذي يتميز بأحادية التبعية الإدارية وأيضاً أحادية الخدمة المقدمة individual facilities ويخضع التخطيط والتنظيم والتشغيل لجهة واحدة محددة كإدارة الطرق أو هيئة النقل العام بالمدينة أو البلدية لتنظيم المواقف.
أما المستوى الثالث فتعقيداته أكبر ويتطلب بالتالي مستوى «أكبر وأعقد من التنسيق» من سلفه (المستوى الرابع) إلا أن شبكات وسائط النقل الفردية (طرق أو نقل عام) لا تزال تنتمي لنفس السلطة الإدارية وذات الجهة التمويلية والإشرافية الموحدة. فإذا ما حدث هناك تداخل في السلطات/ التبعيات الإدارية كما يحدث عادة في بعض الشوارع والطرق السريعة التي تمر بعدد من المدن والبلديات أو إذا كانت هناك جهتان تديران شبكات مختلفة من النقل العام، ففي هذه الحالة قد تظهر بعض الصعوبات في التسيير وبعض الاختلالات في الإدارة والفاعلية. أما المستوى الثاني فيتم فيه الاستعاضة عن السلطة الإدارية الأحادية كإدارة الطرق أو هيئة النقل العام بالمدينة بجهة أعلى higher-level organization ويتطلب تنسيقاً وتكاملاً معقداً بين عدة جهات بتحديد المسؤوليات والاختصاصات وضبط المهام والصلاحيات مما يستدعي تكاملاً دقيقاً غير منحازاً بين منظومات شبكات مختلف وسائط النقل (ممرات المشي، مسارات النقل العام المتعددة، مستويات الطرق الشريانية والسريعة).
أما المستوى الأول فهو أكثر تحدياً وأشد تعقيداً ويستدعي تنسيقاً عالياً وتوازناً ما بين التخطيط الحضري والنقل لتُراعى فيه بشكل متكامل ومتوازن قضايا البيئة والمجتمع والإسكان والاقتصاد والنقل والعمران. وهذا المستوى الأول هو الكفيل بتحقيق جودة الحياة وأنسنة المدينة وحيويتها. وهذا المستوى من التكامل والتوازن بين مخططات المدن ومنظومة النقل هو بالضبط ما تسعى له هيئات التطوير في المناطق والمدن من خلال ما أنيط بها من سلطات تنظيمية وتخطيطية لضبط عملية التنمية الحضرية والتوازن ما بين الأنشطة الإنسانية human activities والخدمات services على المستويين المحلي والإقليمي. وحيث أنّ التركيبة الديموغرافية للمدن وأنشطتها الاقتصادية دائمة التحول والتغير فإنه يتعين إجراء دراسات باستمرار لتحديث مخططات المدن ومنظومات النقل فيها بما يتلاءم ويتناغم مع كل المستجدات والتغيرات الحضرية.
وما دامت هيئات التطوير تضم في مجالسها جميع الأطراف ذات العلاقة بالمنطقة/ المدينة فإنها تتولى عملية توجيه وضبط بوصلة التنمية وتكاملها مع الإستراتيجيات القطاعية التي تضعها الوزارات المعنية وهو ما يعزِّز أكثر دور الإدارات المحلية التي تتولى عملية التطبيق والتنفيذ لهذه المخططات التنموية على أرض الواقع. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مرحلة التعايش مع الاستجابات السريعة والمستعجلة للطلبات الملحة للسكان قد ولّت لتحل محلها مرحلة الاستشراف الإستراتيجي لعملية التنمية الشاملة والمتكاملة والمتوازنة التي تقودها الهيئات لمواجهة التحديات الكبرى لتطوير المدن والمناطق.