عبدالله إبراهيم الكعيد
كتبتُ يوم الثلاثاء الفارط عن الشك. اليوم أكتب عن الثقة. نمطان متضادان من ردود أفعال الإنسان تجاه مواقف الحياة. لن أتناول نظريات علم النفس أو الاجتماع حول تلك الأنماط فصاحبكم مجرّد راصد متأمل في السلوك الإنساني يكتب عمّا يخرج بهِ من دروس مستفادة مر بها شخصياً أو قرأ عنها. أسطّرها في هذه الزاوية وكلي وجل من قدرتي على إيصال الفكرة من عدمه. أنا لا أعوّل كثيراً على ثقة المتلقي بي ككاتب ولا ثقتي بنفسي، بسبب أننا اليوم في ريبة من كل أمر لا يتم تأكيد مصدره وموثوقية صدقيته.
نعم، في عصر الذكاء الاصطناعي من يثق في من؟ المأزق هنا ليس في قدرة ذلك الذكاء على الابتكار، بل في براعته على التزييف، وليس المقصود هنا التطبيقات بذاتها، ولكن من يُحرضها (إن جاز التعبير) ويقولبها كي تصنع وهما قابلاً للتصديق.
أما بعد:
لا أظن بأن مفردة (ثقة) تحتاج إلى تعريف فالجميع يعرفها وقد لا يخلو حديث بين طرفين إلا وترد هذه المفردة في سياق حوارهما لهذا لن أفتّش في المعاجم والقواميس لأنقل لكم معناها. دعونا أولاً نتخيل مآلات فقدان الثقة بأمثلة عشوائية. ماذا لو فقد المريض ثقته بالجرّاح الذي سيجري له العملية الجراحية؟ وكذا ركّاب الطائرة بقائدها وقدرته على تحقيق أعلى معدلات سلامتهم؟ ماذا لو فقد الجُند ثقتهم بالقائد أثناء معركة مصيرية؟ إلى آخر تلك الأمثلة. بدون شك ستكون النتائج وخيمة على الطرفين. في شهر سبتمبر من عام 1999 اقتنيت كتاباً من مكتبة مدبولي الصغير التي تقع في شارع البطل أحد عبدالعزيز بالعاصمة المصرية القاهرة بعنوان (الثقة) لصاحب نظرية نهاية التاريخ الأمريكي من أصول يابانية فرانسيس فوكاياما. لم أقرأ الكتاب بتمعن إلا في هذا الشهر من عام 2024 لا لسبب، فقد قرأت مئات الكتب التي تغص بها مكتبتي لكنني لا أعرف لماذا أجلّت قراءة هذا الكتاب تحديداً! محتوى الكتاب اقتصادي بحت. فصوله تشرح فوارق معنى الثقة بين المجتمعات التي تتمتع بمستوى ثقة أكبر كما في الشركات اليابانية مقارنة بغيرها من الأوربية والأمريكية. وحيث إن الثقة ليست مفردة محببة لأهل المال والأعمال فالعقود المكتوبة من قبل المحامين هي الضابط الرئيس لتنفيذ بنود الصفقات التجارية إلا أن السيد فوكاياما فيما يبدو يود (بأسلوب غير مباشر) تكريس مفهوم أن الثقة كثقافة توجد في المجتمع الشرقي دون الغربي.
حينما وصلت للفصل ما قبل الأخير في الكتاب توقفت عند العنوان (مصنع الثقة العالية) قُلت في نفسي وهل يتم إنتاج الثقة في المصانع؟ ولكنني حينما استطردت في القراءة أدركت أن المؤلف كان يقصد المعنى الفيزيائي للمصنع أي ذلك المكان الذي يغص بالعمّال بجانب الآلات والأدوات والمقابس والبراغي وخلافه بينما قرأ عقلي المصطلح وأحاله لمصنع ثقة داخل النفس البشرية يُنتج نوعاً مخاتلاً من المشاعر والأحاسيس تكتم صوت (الشك) وتسد أذنيه عن سماع صوت العقل وبالتالي يتم تمهيد السبل للوقوع في شراك النصب والاحتيال.