د.محمد سليم
في مستهل الرواية الشهيرة «قلب الظلام» المتمحورة حول قضية الاستعمار الأوروبي في وسط القارة السمراء، لصاحبها الروائي الإنجليزي الملهم جوزيف كونراد الذي يُعدّ أحد الرواد في بلورة النثر الإنجليزي السردي الحديث، نرى مشهداً يقتعد فيه راويتها متن السفينة حاكياً مغامراته في إفريقيا أمام نخبة من الأوروبيين، ويعقد مقارنة طريفة بين الاستعمار الروماني القديم للمنطقة التي يقطنها حالياً الإنجليز، واستعمار الإنجليز للبلاد الشاسعة في العصر الحديث، فيسعى إلى إظهار البون الشاسع بين وجهي الاستعمار اللذين مارستهما القوتان الكبيرتان على امتداد الحقب التاريخية الطويلة حيث أتى الاستعمار الأوروبي الحديث على عكس الاستعمار الروماني القديم - في نظره- إلى تبديد الظلام والجهل وإضاءة مصابيح النور والعلم، وبالطبع مثّل ذلك خطاباً طالما روّجه المستعمرون ومن لفّ لفّهم منذ العصر القديم إلى العصر الحديث، بيد أن فترة الاستعمار تلتها فترة عرفت في التاريخ الحديث بـ»فترة ما بعد الاستعمار».
فمنذ السبعينيات من القرن المنصرم وبالتحديد منذ أواخره كاد المفكرون على اختلاف مشاربهم وبلدانهم وانتماءاتهم، يجمعون على ترداد مصطلح «ما بعد الاستعمار» في محاولة منهم ترويج رواية تؤيد وتؤكد فرضية غياب أو تغييب الاستعمار عن عالمنا الحديث، ربما مرد ذلك الترويج يعود إلى حقيقة تحرر الكثير من البلدان المستعمَرة من نير الاستعمار غير أن الأوضاع في بعض المناطق في قارات العالم المختلفة لا تزال تبقى شاهدة على بقاء وإبقاء الاستعمار في أفظع صوره وأفجعها، ما يثير إزاءها تساؤلات عديدة توقفنا للحظات وتجعلنا نتفكر ونتساءل.
فهل حقاً نعيش حقبة تاريخية تلت انقضاء فترات الاستعمار الأوروبي الجائر في القرون الثلاثة الماضية؟ وهل حقاً ولّى عهد الاستعمار فأصبح العالم بأسره متحرراً من أسره؟ وهل تلاشت للأبد آليات الاستعمار ومؤسساته عن عالمنا المعاصر؟ تساؤلات كثيرة تلحّ علينا فنجد عالمنا عاجزاً عن تقديم إجابات صريحة ومقنعة عنها، وذلك لأن العالم المعاصر يحفه الكثير من الضبابية والغموض، فما يجري في عالم اليوم وخاصة في المناطق المنكوبة بأزمة الاقتتال والعنف والتشريد يقدم لنا صوراً فظيعة ومتوحشة كالتي قرأناها ولا نزال نقرأها في كتب التاريخ عن مساوئ الاستعمار والمستعمرين، فالذي يجري في فلسطين منذ عقود ماضية من احتلال لأراضيها، وقتل وتشريد للأبرياء والعزل والنساء والأطفال بها على أيدي القوات المحتلة التي تساعدها القوى الغربية، يدل على أن عالمنا لا يزال مثقلاً برواسب استعمارية مافتئت عالقة بعالمنا المعاصر، وذلك على الرغم من أصوات الحكمة والعدل التي ترفعها الكثير من الدول ومنها الهند التي عانت بنفسها الاستعمار في أبشع صوره، داعية إلى إقامة دولة فلسطين المستقلة، وهو موقف هندي تجاوب مع نبض عالم الجنوب، ولاقى استحساناً دولياً كبيراً في الدوائر السياسية العالمية.
وبالمثل يمكننا أن نرى بعض الدول الإفريقية التي لا تفتأ تعاني أوضاعاً مأساوية جراء التدخل الأجنبي في شؤونها ضمن التدخلات السافرة والمنتهكة لسيادتها تحت ذريعة قمع عناصر الإرهاب والتطرف والقرصنة (وإن أتت بعض العمليات لصالح دول المنطقة) غير أن الضحايا الأولى هي تلك الدول وسكانها الذين يقعون ضحايا لمطرقة التطرف من جهة وسندان التدخل الأجنبي السافر من جهة أخرى، ولعله من التهكم أن نرى البعض يدعي أن الدول الخاضعة للتدخل الأجنبي هي أصلاً وأساساً دول مهيأة بحكم ظروفها وقابلة للتدخل والاستعمار أو بمعنى آخر هي دول صارت في وضع يؤهلها لأن تكون خاضعة للتبعية والتدخل والاستعمار... فهل يمكن في مثل هذا الوضع أن يتلاشى الاستعمار للأبد؟
** **
- باحث وأكاديمي هندي مقيم في نيو دلهي