جانبي فروقة
رفعت العديد من البنوك الأجنبية كغولدمان ساكس وو سيتي غروب توقعاتها للنمو الاقتصادي للصين بعد أن تجاوز النمو 5.3 % في الربع الأول مقارنة بالعام السابق، حيث كان الهدف الموضوع عند 5 % ويبدو أن الحكومة الصينية وجدت الوصفة الاقتصادية الجديدة لإنعاش اقتصادها المتعثر، فبعد استبعاد سياسة التحفيز الواسع النطاق يراهن اليوم القادة الصينيون على أن «القوى الإنتاجية الجديدة عالية الجودة» ستكون قارب النجاة الذي سينعش حظوط الصين الاقتصادية. وكان كارل ماركس هو أول من أطلق مصطلح القوى الإنتاجية في العمل في كتابه رأس المال الذي يحول المواد إلى أشياء ذات قيمة.
علق الاقتصادي باري نوتون من جامعة كاليفورنيا قائلاً: تستدعي عبارة «قوى إنتاجية جديدة» الفكرة الجدلية التي تقول إن تراكم التغييرات الكمية يمكن أن تؤدي إلى انقطاع نوعي أو قفزة مفاجئة، تماماً مثلما يتحول الماء إلى بخار عندما تزداد الحرارة تدريجيا وتابع باري قائلا: لاحظ كارل ماركس أنه عندما تحقق القوى الإنتاجية الجديدة وزنا كافيا في الاقتصاد فإن لديها القدرة على إعادة تشكيل النظام الاجتماعي فالطاحونة اليدوية تمنحك مجتمعا مع سيد إقطاعي وطاحونة البخار تمنحك مجتمعاً برأس مالي صناعي لذلك يمكننا القول بأن القوى الإنتاجية الجديدة هي أمر بالغ الأهمية.
تسعى الحكومة الصينية لأخذ زمام المبادرة للهيمنة على تكنولوجيات المسقبل مما سيعمل على تغذية النمو ومكاسب الإنتاجية في مختلف قطاعات الاقتصاد لذلك تدعم بقوة اليوم التطوير والتقدم في صناعات السيارات الكهربائية والبطاريات وأشباه الموصلات والروبوتات البشرية والحوسبة الضوئية والسباق إلى الفضاء والطاقة الخضراء ويريد الرئيس الصيني شي جين بينغ التركيز على قطاع التصنيع وهو الأكبر في العالم حيث يساهم بما يقرب من 32 % من الناتج المحلي الإجمالي في الصين في عام 2023م بينما يساهم قطاع العقارات المبتلى بالأزمات ما يقدر بين 20 % إلى 30 % في النشاط الاقتصادي ورغم ارتفاع النشاط التصنيعي في الصين هذا العام بنسبة 6.6 % مقارنة مع العام الماضي إلا أن هذا الارتفاع لا يسد الفجوة التي خلفها انفجار الفقاعة العقارية في الصين.
وفي نظرة إلى العقد الأول لحكم الرئيس شي جين بينغ في السلطة بين عامي 2012 و2022م نجد أن حصة الصناعة تقلصت من 45.4 % إلى 39.9 % من الناتج المحلي الاجمالي في حين ارتفعت الخدمات من 44.6 % إلى 52.8 % من الناتج المحلي. ويؤمن الرئيس شي جين بينغ والقادة الصينيون اليوم بأن نمو التصنيع هو مصدر الرخاء والأمان ويطمحون لبناء ما يسمى ب «سلسلة صناعية متكاملة» وهذا يتطلب تقليص الاعتماد على الموردين الأجانب ورغم أن حجم الصادرات الصينية كان قد نما بنسبة 14 % في الربع الأول مقارنة بالعام السابق إلا أن الصين لا تستطيع الاعتماد فقط على صادرات قوية لفترة طويلة دون أن تثير ردات فعل حمائية من شركائها التجاريين وخاصة في أمريكا وأوربا وهذا ما أشارت إليه جانيت يلين وزارة الخزانة الأمريكية في زيارتها الأخيرة للصين في محاولة منها لإبقاء قنوات الحوار والاتصال مفتوحة في محاولة للحد من التوترات الثنائية بشأن التجارة والتكنولوجيا ناهيك عن تصاعد مستوى التوترات الجيوسياسية للصين مع جيرانها في بحر الصين الجنوبي.
يشبه الوضع الحالي للتنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين أصداء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في أواخر الستينات حيث كانت مستويات عدم الثقة مرتفعة واليوم فإن البلدين يسعيان لتسويات يمكن أن لا تجعلهم أصدقاء ولكن تجنبهم الكارثة، وخاصة قبل قدوم المرشح الرئاسي ترامب في العام القادم في حال نجاحه في الإنتاخابات الأمريكية في نوفمبر القادم والذي قد يشعل حرباً تجارية جديدة مع الصين.
منذ عدة سنوات يتحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مصطلح «التغييرات التي لم نشهدها منذ قرن» وعن المحاولات الأجنبية للابتزاز والاحتواء وسياسات القوة والحمائية الأحادية وممارسة أقصى قدر من الضغط على الصين وهو كان قد ذكر أكثر من مرة أن الحوكمة العالمية لا تتوافق مع الوضع الدولي الحالي واليوم تتجه الصين لبناء علاقات أقوى مع روسيا وإفريقيا ومن خلال إطلاق مبادرات اقتصادية كمبادرة الحزام والطريق مما يظهرها كبطل للتعاون الإقليمي والعولمة الإيجابية وكل ذلك في محاولات لدفع الغرب بقبول صعود ومكانة الصين في مركز المسرح العالمي.
كما طورت الحكومة الصين برامج منهجية مثيرة للإعجاب تعمل كمسرعات نمو لسد الفجوة في سلسلة الابتكار والتوريد منها برنامج «العمالقة الصغار» و»مهندسو سلسلة التوريد»، حيث تمت ترقية 12 ألف من الشركات التصنيعية الصغيرة الحجم لإدراجها بالبورصة وتوفير الدعم لها وتطوير سلاسل التوريد وتنويعها. وفي سعي الحكومة الصينية وطموحها في الاعتماد على الذات التكنولوجية تم زيادة الإنفاق السنوي على العلوم والتكنولوجيا بنسبة 10 % لتأمين المدخلات الحيوية في الصناعة التكنولوجية.
في عام 2021م قامت الحكومة الصينية بقمع العديد من شركات التكنولوجيا واتهمتها بسوء التعامل مع البيانات الضخمة وألحقت هذه العاصفة التنظيمية التي طالت منصات مثل علي بابا وميتوان الضرر بثقة المستثمرين مما أدى إلى تخفيض شركات الإنترنت الكبرى في البلاد إنفاقها على البحث والتطوير بنسبة 7 % تقريباً في النصف الأول من عام 2023م مقارنة مع العام السابق وفقا لشركة روديوم، ويبدو أن الصين تعاني من نسختها الخاصة من مفارقة سولو (Solow Paradox) والتي تدعى بمفارقة الإنتاجية عندما لا ينتج عن الاستثمارات الضخمة في تكنولوجيا المعلومات تحسينات قابلة للقياس في الإنتاجية، وقدم هذه المفارقة في أواخر الثمانينات في القرن الماضي الاقتصادي روبرت سولو الذي علق ساخراً «يمكنك أن ترى في هذا العصر الحاسوب (الكمبيوتر) في كل مكان ولكن ليس في إحصاءات الإنتاجية»
ويستعير اليوم الرئيس بايدن قواعد اللعبة التجارية السابقة للرئيس السابق ترامب في حركة انتخابية استباقية لانتخابات الرئاسة القادمة في نوفمبر ويدعو تحت ضغط من نقابات العمال للصلب في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مضاعفة معدلات التعرفة الجمركية على الصلب والألمنيوم من الصين نتيجة سياسة الإغراق للصادرات الصينية للأسواق العالمية، حيث تنتج الصين اليوم أكثر من نصف الصلب في العالم وهذا يقوّض صناعة الصلب الأمريكي النظيف، حيث لا تخضع صناعة الصلب في الصين لنفس المستوى المطلوب من التنظيم البيئي في الولايات المتحدة الأمريكية رغم أن واردات أمريكا من الصلب الصيني لا تشكّل أكثر من 0.6 % من إجمالي الطلب على الصلب في السوق الأمريكي ولكن يتم اتخاذ هذا الإجراء كإجراء حمائي للصادرات الصينية غير العادلة.
الصين مستمرة في إستراتيجيتها للتنمية القائمة على الابتكار وكان المعهد الأسترالي لأبحاث السياسيات -خزان تفكير- قد طرح قائمة تضم 64 تكنولوجيا حرجة وتصدرت الصين القائمة في جميع التكنولوجيات باستثناء 11 تكنولوجيا، فالصين اليوم تحتل المرتبة الأولى في التصنيع الحيوي والنانوي وفي مجال الطائرات بدون طيار والرادار والروبوتات والسونار والتشفير ما بعد الكمي. واحتلت الصين المرتبة الأولى عالمياً في تصدير السيارات الكهربائية السنة الماصية وما زال التنين الصيني يسعى ليصبح قوة عالمية في سباق الابتكار.
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية