عبدالوهاب الفايز
في مقال الأسبوع الماضي قلنا إن التنوع الأحيائي أو البيولوجي أصبح (قضية وجودية) للبشرية، فهو الحياة التي تعتمد عليها الإنسانية في بقائها، وقلنا إن هذا الأمر، بالنسبة لنا في المملكة، يشكل أهمية قصوى لكوننا نقع في حزام صحراوي، ونواجه مخاطر التصحر المدمر للتنوع البيولوجي في الطبيعة. ولإبعاد بلادنا عن هذه المخاطر كان القرار بضرورة تحويل 30 بالمئة من مساحة البلاد إلى محميات برية وبحرية في عام 2030، وتم المضي بقوة لإنفاذ هذا القرار، والآن وصلنا إلى حماية 18 بالمئة من الأراضي و6 بالمئة من مياهنا الإقليمية الاقتصادية.
والسؤال الجوهري الضروري: ماذا نعمل بهذه المساحة الكبرى من المحميات، كيف نحولها إلى فرصة استثمارية وطنية، حتى لا تكون مجرد أراض معزولة لا تخدمنا في الأهداف البيئية والمناخية، ولا تخدمنا في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية.. بالذات إشراك المجتمعات المحلية في الحماية والتنمية والاستثمار.
وهذا تقريباً ما تطرق له المسؤولون في قطاع البيئة في المملكة والخبراء الدوليون الذين شاركوا في جلسات منتدى المحميات الطبيعية (حِمى) العلمي الدولي الذي نظمه المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية والذي بدأ أعماله الأحد الماضي ولمدة أربعة أيام. لقد أبرزوا التحديات التي سوف تواجهنا مع وجود المساحات الكبيرة. وأبرز هذه التحديات يتناول (إشراك المجتمعات المحلية) داخل المحميات الطبيعية والقريبة منها.
أعتقد أن السكان القريبين من المحميات مستعدون لأخذها إلى الآفاق والأهداف الإستراتيجية التي نتطلع إليها، فالأجيال التي عاصرت فترات العلاقة الحميمة مع الطبيعة والكائنات الحية ما زالت موجودة وفاعلة، وهي الأكثر سعادة بما تراه من جهود حكومية نوعية وصارمة حازمة لحماية البيئة والكائنات الحية في البر والبحر. والأهم أن المحميات حاجة نبعت من الناس في تاريخنا العربي.
وإشراك المجتمعات المحلية يتحقق وينجح إذا تفاعلت إدارة المحميات واستفادت من الإمكانات التي يتيحها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية وبقية المراكز البيئية.
ثمة تحد آخر يواجهنا، وهو كيف نجعل المحميات (أحد الممكنات لبرامج الروية). هناك العديد من المستهدفات الوطنية الرئسية مثل المبادرات الخضراء وحماية البيئة والمناخ. دمج المحميات في برامج الرؤية ونسيج التنمية الوطنية ومتطلباتها يتطلب جهود واسعة ومحترفة من القائمين على المحميات. وكما أشرنا الأسبوع الماضي لدينا منافع عديدة سوف نجنيها من المحميات، فالحماية هي البداية.
ثمة تحد آخر أبرزه المتحدثون وهو تحدي (إشراك المجتمع الأهلي) عبر مؤسساته الاعتبارية. الجمعيات الأهلية العاملة في القطاع الخيري والتعاوني المتخصص ما زالت قليلة فهي بحدود 50 جمعيّة. هذه دورها حيوي ويمكن أن تتولى الكثير من الأمور الحيوية في تنمية ورعاية المحميات، فهي الأداة الأفضل لتفعيل وإشراك المجتمعات المحلية، خصوصاً مع التوجه الحكومي إلى دعم القطاع الثالث.
في مقال سابق (الجزيرة 8 فبراير 2023) ذكرنا أهمية استثمار منظومة البيئة في المملكة للقطاع الخيري والتعاوني بشكل (واسع، وسريع، ونوعي) حتى يتصدى للقضايا الحيوية التي ترتبط بالناس. المعروف أن القطاع الثالث آلية عملية توفر على الحكومات الجهد والتكلفة، والأهم: يقلل التكلفة السياسية حين معالجة القضايا المعقدة التي منشأها المجتمع، ولن تُحل دون مشاركته. الناس لديها الأفكار المبدعة والتجارب الثرية، ولدى القطاع الثالث آلية مرنة وسريعة لحشد الجهود.
أيضاً أبرز المشاركون أهمية مساهمة مؤسسات التعليم بالذات الجامعات. المحميات حينما تزدهر وتنمو تقدم فرصة للباحثين لإجراء الدراسات في المجالات الدوائية والغذائية والطبية وغيرها. كما أن الجامعات لديها فرصة الاستفادة من الأموال المخصصة للدراسات والأبحاث في منظومة الحياة الفطرية، والبيئة بشكل عام. الأمر الإيجابي في تجربة إستراتيجية البيئة تركيزها على الدراسات والبحوث حتى يتم التأصيل العلمي الموضوعي لقضايا البيئة، وجامعاتنا لديها نخبة كبيرة الباحثين المتميزين في مجالات البيئة الواسعة.
الأمر الإيجابي الذي وقف عنده المشاركون الدوليون هو توفر (الإرادة السياسية) الحازمة والجادة، والأهم: السخية في توفير الموارد المالية والبشرية للنهوض بمنظومة البيئة ومنها المحميات الطبيعية. ويرون أن هذه تشكل نقلة نوعية في كفاءة الإدارة الحكومية. وتوفر الإرادة والإمكانيات تضع القيادات والعاملون في منظومة البيئة أمام تحدّي الإنجاز لتحويل المستهدفات التي وضعتها برامج رؤية المملكة للبيئة إلى أثرٍ ملموس، بالذات في المحميات الطبيعية.
كما ذكرنا الأسبوع الماضي، منظومة البيئة في مستويات التشريع والتنظيم وبناء القدرات حققت نقلات كبيرة وسريعة وغير متوقعة قياساً بحجم التحديات التي تواجهها بلادنا في جبهة البيئة. لقد كانت الأوضاع صعبةً للغاية قبل فتح ملف البيئة، فالحياة الفطرية كانت تتجه إلى الاندثار، في البر والبحر، وكذلك الغطاء النباتي. العبث في الطبيعة كان يدمر 120 ألف هكتار من الأشجار والشجيرات التي تتم تعريتها كل عام. وحجم التدهور السنوي للغطاء النباتي كان يتجه إلى 13 ألف هكتار بحلول 1444هـ ، وكميات الحطب التي تباع سنويًّا وصلت إلى 4 آلاف طن . وقبل عدة سنوات قدرت خسائر المملكة سنويًّا، بسبب التدهور البيئي بـ84 مليار ريال طبقاً لدراسة للبنك الدولي. والمؤسف أن بلادنا كانت تحتل المرتبة 95 من بين 180 دولة في الحفاظ على البيئة.
المحميات الطبيعية بدأت تحقق مكتسبات سريعة في مجال إشراك المجتمعات المحلية. محمية الملك خالد في الثمامة بدأت قبل عامين بتوظيف أكثر من 50 شاباً للعمل في الرقابة البيئية. وعمل هؤلاء يتضمن رصد الملاحظات في تعاملات الناس مع الطبيعة مثل السلوكيات الخاطئة لإشعال النار والاحتطاب، وأيضاً رصد رمي النفايات وإرشاد الناس إلى كيفية التعامل معها، وأيضاً التنسيق مع الأمن البيئي لضبط المخالفات النظامية. والرقابة البيئية هي مبادرة جديدة في أنظمة البيئة، ويتم إعداد البرامج التأهيلية لتخريج المراقبين البيئيين. ومنها البرنامج التدريبي الذي تنظمه المحمية بالتعاون مع جامعة المجمعة ومدته تسعة أشهر، ومصمم لرفع كفاءة المراقبين البيئيين من خلال تنمية المهارات العلمية والعملية في علوم البيئة، وإدارة الموارد الطبيعية، والسياحة البيئية، والتشريعات والقوانين البيئية المنظمة المعنية بحماية الطبيعة واللغة الإنجليزية والحاسب الآلي.
وهذا التوجه لإشراك أبناء المجتمعات المحلية ليكونوا جزءاً من الحل للتحديات، وأيضاً ليكونوا أبرز المستفيدين من المحميات نتمنى أن يتعزَّز في جميع المحميات. المحميات أصبحت أرضية عملية مُحوكمة لتفعيل جميع جهود حماية البيئة، فقد تحولت إلى (مراكز وطنية لإدارة مشاريع البيئة)، والتحكم في مدخلاتها ومستهدفاتها، والأهم: تجميع كل المبادرات والجهود تحت مظلتها. وأبرز نجاحات نموذج عمل المحميات نجده في سرعة (تحويل سلوك الإنسان) ليكون أبناء المجتمع هم حماة البيئة الأهم والمستفيد الأول من جهود الحماية. وهذا - كما نقول دوماً - هو ذروة نجاح الحكومات حين التصدي لتحديات البيئة.