د. سفران بن سفر المقاطي
في عالمنا المعاصر أصبح الاتصال والإعلام الدولي (International Communication and Media) من أحد أهم العوامل والوسائل التي تُسهم في صناعة القوة الناعمة للدول (Creating Soft power for Countries)، إذ يؤثر نجاحه في تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتشكيل الصورة الإيجابية للدول في المجتمع الدولي. وفي الوقت نفسه يعتمد نجاح الدول في تحقيق التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي على قدرتها على تبادل المعلومات وإقناع الآخرين بقيمها ومصالحها. بالمثل، تعد الاتصالات الدولية الذراع الدبلوماسي الذي يساعد الدول في بناء وتعزيز علاقاتها الخارجية؛ إذ تسعى إلى تحقيق الفهم والتعاون بين الدول وتعزيز العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف. ويعمل الدبلوماسيون على التواصل وتبادل المعلومات ومناقشة القضايا المهمة للاستقرار العالمي والسلام. في وقت تؤثر فيه وسائل الإعلام أيضًا في تشكيل الرأي العام الدولي ونقل الرسائل والقضايا البارزة للدول إلى المجتمع الدولي. كما تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دورًا شعبيًّا في نشر الثقافة والقيم الدولية وتوفير قنوات للتواصل المباشر والتفاعل مع الجمهور العالمي. لذلك يعد الإعلام أحد أهم وسائل نشر الثقافة والقيم الدولية.
ويستخدم الإعلام وسائل مختلفة تقليدية كالصحف والتلفزيون والإذاعة وحديثة كالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر ثقافة الدول وتعريف الجمهور العالمي بتراثها وتقاليدها، حيث يتم نقل الأخبار والبرامج والمحتوى الثقافي للجمهور العالمي مستصحبة توجيه دولها الإعلام لنشر صورتها الإيجابية وتوضيح ثقافتها وقيمها للمجتمع الدولي. كما يُستخدم الإعلام للترويج لمصالح الدول الاقتصادية والسياسية في المجتمع الدولي، مع استخدام الرسائل والإعلانات والحملات الإعلانية والتواصل الدبلوماسي لتعزيز علاقات الدول، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحقيق التنمية الاقتصادية. ويعتمد تأثير الإعلام على قدرته على نقل الرسائل بفعالية وإقناع الجمهور بمصداقية واهتمام الدول بمصالحهم، لأن الإعلام له قوة كبيرة في بناء الصورة الذهنية للدول وتحقيق التأثير الدولي. وتعتمد قوة الإعلام على قدرته على توجيه الرأي العام وتشكيل احترام وتقدير للدول في المجتمع الدولي.
لذا يسهم التواصل الدبلوماسي (Diplomatic Communication) في تعزيز الفهم وبناء الثقة بين الدول، وتحقيق الاستقرار والتعاون الدولي؛ لذلك يعمل الدبلوماسيون على تنظيم الاجتماعات الثنائية والمتعددة الأطراف والمفاوضات الدبلوماسية لتسوية النزاعات وحل المشاكل بين الدول. ويعتمد التواصل الدبلوماسي على استخدام لغة دبلوماسية، والتفاعل بطريقة دبلوماسية متطورة، وبناء علاقات مؤثرة مع الدول الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الاتصال الدبلوماسي وسائل الإعلام لتعزيز العلاقات الدولية. ويعتمد الدبلوماسيون على وسائل الإعلام الدولية لنشر رؤيتهم وآرائهم، وإعلام الجمهور العالمي بمواقف بلدهم، وتحقيق تأثير إيجابي في وسائل الإعلام. وفي الوقت نفسه تعمل وسائل الإعلام الدولية على نقل المعلومات والأخبار والتحليلات للجمهور العالمي بطريقة مهنية وموضوعية، وإن كان يتأثر نقلها أيضًا بالإيدويولوجيا واتجاهات الدولة الداعمة للوسيلة الإعلامية الناقلة، لذلك يعتمد تأثير الإعلام على مصداقيته وشفافيته، وقدرته على تقديم الحقائق بطريقة موضوعية.
وتعتبر الدبلوماسية العامة (General Diplomatic) إحدى الأدوات المهمة في مجال الاتصالات الدولية، لأنها تسعى لبناء الجسور بين الدول وتعزيز الفهم والتعاون الدولي. تسهم الدبلوماسية العامة في تعزيز سمعة الدول دوليًا وتعريف الجمهور العالمي بثقافتها وقيمها. تعتمد الدبلوماسية العامة على استخدام وسائل الإعلام والاتصال الدولية لنشر رؤى الدول ونشر مبادئها ومواقفها. تعمل الدبلوماسية العامة على تنظيم الفعاليات الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية لتعزيز التبادل الثقافي وتعزيز العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. تسهم الدبلوماسية العامة في بناء الثقة وتعزيز الفهم بين الدول وتعزيز العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. تعتبر الدبلوماسية العامة أداة فعالة في تعزيز التعاون الدولي وتحقيق الاستقرار العالمي.
ولأن القوة الناعمة هي مفهوم سياسي (Political Concept) يعني القدرة على التأثير على الآخرين بطرق غير عسكرية أو اقتصادية. بمعنى آخر، هي القدرة على جذب وإقناع الآخرين بدلًا من إجبارهم أو شرائهم. القوة الناعمة تستند إلى عوامل مثل الثقافة، والقيم، والسمعة، والسياسات. الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك مصادر عديدة من القوة الناعمة، مثل ثقافتها وقيمها وسياساتها. وبأن الاتصال والإعلام الدولي يلعب دورًا مهمًا في صناعة القوة الناعمة للدول، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين بالجذب والإقناع، بدلًا من الإكراه والتهديد. وقد أظهرت بعض التجارب الدولية الناجية كيف استطاعت بعض الدول تسخير إمكاناتها المرتبطة بالتواصل والإعلام لتعزيز تأثيرها وحضورها العالمي، والترويج لسياساتها وأفكارها وثقافاتها، والتأثير على الجماهير الدولية من أجل إنفاذ أجنداتها وخططها في الخارج. ومن أمثلة هذه التجارب الناجحة الدولية الناجحة في الاتصال والإعلام الدولي وصناعة القوة الناعمة منها على سبيل المثال:
-1 الولايات المتحدة الأمريكية (USA) والتي تعد أفضل مثال عالمي للقوة الناعمة لامتلاكها عددًا من أكبر وأفضل مصادر القوة الناعمة (في ثقافتها وسياساتها وأنظمتها)، وهذه بعض الأمثلة على القوة الناعمة للولايات المتحدة:
- دعم التعليم والبحث والابتكار في مجالات مثل التكنولوجيا والطب والفضاء، وتشجيع التبادل العلمي والثقافي مع دول أخرى. هذه المجالات تساهم في تطور المعرفة والعلوم، وتوفير حلول للتحديات التي تواجه البشرية، لوجود أفضل جامعات العالم في الولايات مثل، جامعات هارفارد، ستانفورد وويل وإم أي تي والتي تجذب الكثير من الطلاب سنويًا.
- برامج التبادل الثقافي: تقدم الولايات المتحدة برامج مثل «فولبرايت» و»التبادل الدولي للطلاب» التي تُشجع على التبادل الثقافي بين الطلاب الأمريكيين والأجانب وتزيد من فرص التعاون والشراكة بين البلدان. وتُعد الولايات المتحدة رائدة في العديد من مجالات البحث العلمي، مثل الطب والهندسة وعلوم الفضاء.
- إنتاج وتصدير المحتوى الإعلامي والفني والرياضي، مثل الأفلام والمسلسلات والموسيقى والألعاب والرياضات، وتشكيل ذوق واتجاهات المستهلكين في العالم. هذا المحتوى يعبر عن قصص وأفكار وإبداعات أمريكية، ويجذب اهتمام الملايين من المشاهدين والمستخدمين، ويؤثر على ثقافة وأسلوب حياة كثير من الناس، ويرفع من شعبية وجودية الولايات المتحدة.
- أما مجال التكنولوجيا والابتكار يعد سيليكون فالي مركزًا عالميًا للابتكار، حيث تتواجد العديد من شركات التكنولوجيا مثل شركات (إبل، أي بي إم، فيسبوك، تويتر، غوغل، أوراكل سيسكو سيستم)، التي طورت شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت وتوفير منصات للتفاعل والتعبير والتأثير على الرأي العام. هذه الشبكات تسهل نشر المعلومات والآراء والمبادرات، وتمكن الناس من التواصل والتعرف على بعضهم البعض. أما فيما يختص بمجالات صناعة الترفيه والثقافة تعتبر هوليوود رمزًا عالميًا لصناعة الثقافة والترفيه من خلال السينما وإنتاج البرامج التلفزيونية، حيث تنتج أفلامًا تُعرض في جميع أنحاء العالم وتجذب ملايين المشاهدين. أيضا تُعد الولايات المتحدة موطنًا لأنواع موسيقية مشهورة عالميًا مثل الجاز والبلوز والروك والهيب هوب، مما يُلهم الفنانين ويُشجع على التبادل الثقافي. كما حظيت الكتب الأمريكية، مثل «مغامرات توم سوير» و«هاري بوتر» و»لعبة العروش» بشعبية واسعة على مستوى العالم.
وتعد الماركات التجارية الأمريكية رموزًا عالمية للثقافة وقوتها الناعمة لكونها أكثر الماركات العالمية انتشارًا واستخدامًا مثل ستار بكس، دنكن دونت، بيبسي، كوكاكولا، ماكدونالد، ونيكي.
-2 المملكة المتحدة (UK) والتي تعد رائدة في مجال الاتصال الدولي والإعلام لوجود هيئة الإذاعة البريطانية واحدة من أشهر المؤسسات الإعلامية احترامًا ومتابعة في العالم. كما تُعرف المملكة المتحدة أيضًا بجامعاتها المرموقة ومتاحفها العريقة، والتي تجذب الكثير من الطلاب والسياح من جميع أنحاء العالم.
-3 فرنسا (France) والتي تعرف بثقافتها الغنية وتاريخها العريق لاستثمارها بشكل كبير في الترويج لثقافتها من خلال المتاحف والمعارض الفنية والمهرجانات. كما تُعدّ باريس واحدة من أكثر المدن زيارة في العالم، مما يُساعد على تعزيز الصورة الإيجابية لفرنسا.
-4 كوريا الجنوبية (South Korea) استثمرت في تطوير وسائل الإعلام المحلية وجعلها أكثر قدرة على المنافسة على المستوى الدولي وحققت نجاحًا كبيرًا في استخدام القوة الناعمة لتعزيز صورتها الدولية وركزت على الترويج لثقافتها من خلال الموسيقى والسينما والدراما مثل فرقة BTS ومخرج الأفلام «بونغ جون هو».
وأخيراً، يمكن الاستنتاج من المناقشة السابقة أن الاتصال الدولي ووسائل الإعلام الدولية تلعب دوراً حاسماً في خلق القوة الناعمة للدول لكون نجاح الدول في تحقيق التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي يعتمد على قدرتها على التواصل وتبادل المعلومات وإقناع الجمهور بمصداقيتها وقيمها لهذا تحتاج الدول إلى تطوير استراتيجيات الاتصال الدولي ووسائل الإعلام لتحقيق الاستقلالية والفعالية في العلاقات الدولية. يجب على الدول الاستثمار في تطوير وتحسين وسائل الاتصال ووسائل الإعلام لنشر ثقافتها وقيمها وتعزيز صورتها الإيجابية في المجتمع الدولي وذلك عن طريق الاعتماد على الاتصال الدولي ووسائل الإعلام، يمكن للدولة تعزيز قوتها وتحقيق النجاح الدبلوماسي يساهم الاتصال الفعال والمؤثر في تعزيز التفاهم وبناء العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف، وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الدول الأخرى.