د. محمد بن إبراهيم الملحم
قبل أن أبدأ مقالتي هذه أود أن أؤكد مرة أخرى على اعتزازي بهذا العمل المتميز درامياً، وأؤكد أن النقد الأدبي والفني لا يقلل من قيمة أي عمل وإنما يضيف له، وأشير إلى أن كثيراً مما أقدمه من إلماحات نقدية شكلية لا أستعرض فيها عضلات باحث تاريخي وإنما أقدم معلومات عامة يعرفها أغلب أبناء جيلي (ومنهم كثير ممن عملوا في الفريق!) وأستحضر أهميتها لغاية اكتمال العمل ونبذ الشوائب التي تكدر جماليته التي خلقها إبهار الجانب الدرامي فيه وأستكمل معكم اليوم ما قدمت له في المقالة السابقة مستعرضاً مزيداً من التناقضات علماً أني لاحقاً سأناقش القصة والعمل الدرامي فنياً، وأشير أني من سكان حي النعاثل المجاور لحي الرفعة (البطل المكاني للقصة) فاللهجات والعادات متقاربة إلى حدٍّ بعيد ولهذا فإني لا أجد صعوبة في تصور الحالة الاجتماعية بكل أبعادها ومتغيراتها لبيئة القصة وأبرزها الجانب المعماري فالبيوت التي صورها المسلسل لا تمثل هذه الأحياء حيث يلاحظ مثلاً أن بيت بطل المسلسل (أبوعيسى) يتمتع بسور بينه وبين مبنى المنزل مسافة وهو تصميم مشابه للبيوت الحديثة اليوم ولم يوجد ذلك أبداً في بيوت الطين بأحياء الأحساء والتي لا تزال كثير منها قائمة حتى اليوم سواء في الكوت أو الرفعة! كما زين سوره من الخارج بشجيرات تماماً كحال بيوتنا الحديثة اليوم كما ازدان المنزل بالداخل بعدد من النباتات الداخلية وضعت في أحواض وهو غير مطابق لواقع بيت الأحساء القديم! بل الأدهى أن جدران البيوت من الأعلى سواء جهة السطح أو أعالي سور البيت ظهرت ليست مستقيمة كحال بيوت الأحساء وإنما مزينة بتدرج ثلاثي مطابق لعمارة البيوت النجدية! وكذلك الأمر في شكل سوق القيصرية والذي لم يكن كذلك أبداً، لقد تمت إعادة بناء السوق بعد احتراقه عام 2001 بالصورة الحالية الخاطئة وهو خطأ فادح وقعت فيه الجهة التي أعادت بناء السوق، ويعرفه كل أهل الأحساء اليوم ويأسفون لما حدث لهوية سوقهم التاريخي، ولكن ما كان يجب على المسلسل أن يقع في نفس الهاوية بل وينسخها قص لصق إلى البيوت أيضاً! أشير أيضاً أنه مع إنشاء مصنع الأسمنت بالأحساء في الخمسينيات وتوفر الأسمنت بسهولة لأهاليها فقد اكتست كثير من بيوتها الطينية من الخارج بالأسمنت لحفظها من التآكل بفعل الأمطار كما استخدم الأسمنت في تسوية أرضيات البيوت، بينما ظهرت كل بيوت المسلسل من الخارج بالطين!
كذلك صور المسلسل أغلب طرقات حي الرفعة واسعة فسيحة والواقع لا يقول ذلك (ولا يزال هذا الحي محافظاً على طرقاته الضيقة حتى اليوم)، وفي أحد المشاهد ظهر شارع المدير (حيث محل الآلات الموسيقية) ولكن بشكل مغاير لما نعهده عنه فواقعه أنه شارع مجاور للطرف الشمالي للقيصرية (حيث الخرازين) وعندما تمشي متعمقاً فيه فلا سوق بالداخل وإنما هو مجرد شارع وبه بعض المحلات يميناً ويساراً بينما يظهره لنا المسلسل وقد انتهى إلى سوق آخر يعترض الشارع بعد عدة أمتار من محل الآلات الموسيقية! ولايزال شارع المدير حاضراً إلى اليوم بوضعه التخطيطي فلماذا حدث هذا التغيير العجيب؟ كما أن الدكتور يستقبل مرضاه في بيت عربي تم تحويله إلى مستشفى، بينما في عهد الملك فيصل رحمه الله (فترة قصة المسلسل الزمنية) كان هناك مستشفيان بالأحساء أحدهما مجموعة عيادات خارجية بخدماتها من صيدلية ومختبر ويسمى المستشفى الأصفر كما سمي أيضاً بالأخضر والآخر مستشفى الملك فيصل في حي التعاون الحديث (وهو نفسه المجدد حالياً بنفس الاسم) ويتضمن حالات التنويم، وبمناسبة الطبيب فهو يقول لعتيق إنه أحضر عفشه من مصر وهو خلاف الواقع المعروف فلم يكن ذلك متاحاً ذلك الحين فلا توجد تسهيلات نقل بري كما هو الآن بل كان السفر بالطائرة فقط وهو ما لا يتصور معه إحضار عفش من مصر! كما أن بنت الدكتور المصرية تظهر بشعر ذي سوطين وهو في الواقع المظهر الأحسائي أو السعودي عموماً لشعر المرأة وليس شكلاً مألوفاً للبنت المصرية، ربما ينطبق على امرأة مصرية أكبر سناً أو ربما بنت القرية المصرية ولكنه مستبعد أن ينطبق على ابنة دكتور! كذلك تظهر أم فرحان دائماً بشعر مفتول وهو ما لا يحدث في الواقع فلابد أن تقوم المرأة إما بتسويط رأسها (سوط أو اثنين) أو جمعه في الخلف. لوحظ أيضاً كثرة تواجد النساء في الطرقات كما أن أغطيتهن خفيفة جداً وهو غير صحيح تماماً فمن المعروف أنهن لا يضعن هذه الأغطية الخفيفة جداً، ولا أدري ما سر هذه السقطة التي تكررت من قبل أيضاً وبشكل سافر في أغطية نساء مسلسل «العاصوف» وبصورة مغايرة تماماً لحقيقة تاريخ المرأة السعودية سواء في نجد أو الأحساء، فهذه اللازمة بين المسلسلين تترك علامة تعجب كبرى، ويلاحظ كثرة النساء اللاتي يتجولن في الطرقات وهو غير مطابق لواقع الشارع الأحسائي فالمرأة كان يعاب عليها كثرة الخروج من المنزل، وبالنسبة للملابس أيضاً فقد ظهر المعزب أبعيسى يلبس بيجامة نوم وهو غير مألوف أبداً في الستينيات خاصة لشخص بخيل وذكر أنه لا يسافر خارج الأحساء! كما أن الناس يلبسون عقال بوخيط والذي تقريباً انقطع في عهد الملك فيصل باستثناء نوادر قليلة، وظهر أغلب الناس يلبسون العقال والقلة بدونه بينما الواقع هو عكس ذلك. كذلك لوحظ كثرة السيارات في حين أن من يمتلكون سيارات كانوا قليلين جداً في الواقع، وتشعر أحياناً أن المسلسل يستعرض كمية السيارات القديمة التي تم توظيفها في العمل، لعلي أتوقف هنا لأشير إلى أن الوضع بكامل شكله وترتيباته من بيوت طين وملابس وأثاث يناسب بجدارة أي عمل يصور الأربعينيات وماقبلها، فهو نجاح ينبغي العمل على توظيفه لأي عمل قادم بتلك الفترة. وللحديث بقية ليس لالتقاط «تفاصيل دقيقة» كما قد يعلق بعض القراء وإنما هو لتوضيح الكم الكبير لهذه التفاصيل كما لاحظتم والذي يصعب تجاوزه دون هذه الوقفات خدمة لتاريخ وتراث الأحساء العريق أولاً ولخدمة العمل نفسه ثانياً، وللحديث بقية.