سليمان الجاسر الحربش
كلّما أمعنت النظر فيما أحدثته رؤية 2030 من حراك اقتصادي وثقافي واجتماعي، ثم أرجعت البصر كرتين، أيقنت أننا نحن جيل الستينيات أشد احتفاءً بهذه الرؤية من غيرنا من مختلف الأعمار في هذا الوطن الغالي. لماذا؟
نحن جيل البلاغ الأول والبلاغ الثاني، جيل الشعارات والهتافات نحن الذين انتصرنا وعصرنا قلوب الأعداء.
صحونا وعالمنا العربي يخرج من هزيمة 1948 في فلسطين وعندما بدأنا نشب عن الطوق شهدنا أول امتحان تجتازه وكالة المخابرات الأمريكية في الوطن العربي وكانت سوريا هي الضحية الأولى ثم تتابعت الأحداث انقلاب يأتي بعده انقلاب يردد نفس الشعار بدءاً بتلك العبارة الرنانة «يا جماهير شعبنا العظيم» ثم تنطفئ الفقاعة بانتظار الأخرى.
بدأ المسلسل بانقلاب حسني الزعيم على حكومة الرئيس شكري القوتلي المنتخبة، حدث الانقلاب في شهر مارس 1949وسقط في أغسطس من نفس العام، وأعدم قائده حسني الزعيم، كانت الولايات المتحدة أول من أيد الانقلاب ويُروى عن ضابط المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند قوله إن حسني الزعيم وعدهم «بحركة إيجابية تجاه إسرائيل إذا نجح الانقلاب» على خلاف موقف حكومة القوتلي الوطنية، وهو يعني أن هدف التطبيع ولد مع مولد الدولة العبرية، وحاضنته وكالة المخابرات الأمريكية..
لم يكن لدى قائد الانقلاب أجندة قابلة للتطبيق حتى أنه أسقط في يده بعد نجاح الانقلاب عندما جاءه أحد كبار معاونيه ليخبره أن سوريا برمتها أصبحت رهن إشارته! فماكان منه إلا أن بسط يديه الاثنتين وقال بصيغة المستجدي: «شو بدي أعمل فيها»!!
بعد هذا تعاقبت الانقلابات على سوريا كل واحد يبدأ بشعار «ياجماهير شعبنا العظيم» .ثم ينتهي في أقرب معتقل، وأصبحت هي والوطن العربي كله نكتة يتطارحها محمد الماغوط ودريد لحام على خشبة المسرح.
تكرر المسلسل في العراق بزعامة عبدالكريم قاسم في انقلاب عسكري دموي نقل السلطة من قصر الرحاب في بغداد إلى وزارة الدفاع، بدأ الانقلاب ناصرياً ثم اختطفه الشيوعيون إلى أن سقط على يد حزب البعث. ولم يبق في ذاكرة الشعب العراقي سوى صورة ميدان أم الطبول وما شهده من إعدامات، ومشهد الزعيم وهو يتلقى الرصاص في مبنى الإذاعة.
وفي ليبيا تكرر المسلسل بدأ هو الآخر ناصرياً ثم صار جماهيرياً يقبع في خيمة تزرعها أسلاك التنصت إلى أن سقط على يد جماهيره.
أما في مصر فقد مرت التجربة في عدة مراحل من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم ميثاق العمل الوطني الذي ساهم في امتصاص الفراغ العاطفي بعد سقوط الوحدة ثم حرب اليمن وما جرته من ويلات شهدتُ بعضها خلال وجودي في مصر للدراسة في النصف الأول من عقد الستينيات وأثناء زيارة عمل لمدينة صنعاء 2005 بعد تعييني مديراً عاماً لصندوق أوبك OFID.
والحقيقة أن من يريد رصد آثار ثورة 23 يوليو على كافة فئات الشعب المصري لن يجدها في مؤلفات الأستاذ محمد حسنين هيكل أو غيره بل عليه أن يبحث عنها في المخزون الثقافي المصري، تصدى لهذا المشروع الكاتب صنع الله إبراهيم في روايته «بنت اسمها ذات» وهي من أفضل ما نجح في تجسيد روح الأسرة المصرية وكيف استقبلت وواكبت الثورة عبر تاريخها، وفي بعض شخصيات نجيب محفوظ مثل عيسى الدباغ في رواية «السمان والخريف» أو عامر وجدي في رواية ميرامار أو في كل أبطال رواية «ثرثرة فوق النيل».
وأخيراً «رواية قبل النكسة بيوم للدكتور (وليس الدكتورة) إيمان يحيى.
هذه الروايات هي خير من يوثق تلك المرحلة التي تصور فقدان البوصلة عند أبطال الرواية الذين لم يجدوا في الثورة ماكانوا يصبون إليه، وهو حلم يسعى فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي وحكومته لتحقيقه تحت شعار الجمهورية الجديدة وفقهم الله.
ولم تنج التجربة السعودية من هذا المأزق، كان لدينا رؤيا لكن تنقصنا الرؤية، كان لدينا خطة لكن لم يكن لها نصيب من التطبيق وسط ما شهدته السوق البترولية من تقلبات حادة ومفاجئة منذ أن بزغت شمس التخطيط علينا أوائل السبعينيات.
الخلاصة أن كل هذه التجارب يجمعها قاسم مشترك واحد هو غياب الرؤية أو الخطة أو خارطة الطريق القابلة للرصد والقياس والمتابعه لذاك كان نصيبها التعثر أو الفشل.
ولهذا كله أشكر ولي الأمر، على ما تمر به البلاد من حراك بدأنا نجني ثماره، أشكره أصالة عن نفسي ونيابة عن أبنائي وأحفادي منهم من وضعته الرؤية في مكانه أو مكانها الصحيح ومنهم من يساهم بكل فخر وحماسة في تنفيذ برامج الرؤية.
يقول عبدالله ابن المقفع في مطلع كتابه «الأدب الصغير»:
أما بعد فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلاً، والله وقّت للأمور أقدارها وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد» والسبيل إلى دركها العقل الصحيح، وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر وتنفيذ البصر بالعزم».
هذه ملامح الأجندة التي يستخلصها جيل الستينيات من أجندة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.وفّق الله الأمير في اختيار الأمور وتنفيذها لما هو فيه صلاح المعاش والمعاد ورزقه البطانة الصالحة التي لم تتوفر لمن سبقه من القادة في الوطن العربي إنه سميع مجيب.