د. جمال الراوي
سرعة البديهة، أو الجواب السريع والذكي للتخلص من المواقف المحرجة، يتطلب حضورًا ذهنيًا وذكاءً فائقًا، لا يتوفر عند معظمنا، لأنه فن وعلم لا يمكن تحصيله بسهولة، ويحتاج لقاعدة فكرية وثقافية، لا يملكها كثير من الناس، لأن تحصيلها يحتاج للجهد والمثابرة.
قد يندم أحدنا لأنه لم يستطع التصرف بصورة مناسبة، ردًّا على بعض المواقف المحرجة، لأن ذاكرته خانته، ولم يرد على أحدهم رماه بكلمةٍ أغاظته، فيتذكر لاحقًا بعض الأجوبة والردود، التي يجدها مناسبة، لكنه يكتشف بأن أوانها قد فات، ولم يعد يصلح أن يقولها، في هذا الوقت المتأخر، فيشعر بالغصة لأن ذاكرته وذكاءه لم يسعفاه بالرد المناسب في الوقت المناسب.
قد يندم أحدنا لأنه ارتكس بطريقة عصبية على بعض المواقف، واستعمل ألفاظًا غير لائقة، لكنه يشعر بالندم أكثر لأنه لم يستطع الرد بطريقة ذكية، فتبقى حالة الندم تعذبه، فيلوم ذاكرته لأنها لم تعنه ليتصرف بطريقة مناسبة ولائقة، فيقول في نفسه: «ليتني تذكرت الكلمات المناسبة حتى أرد على غريمي وأحرجه»، فلحظات العصبية والتلفظ بألفاظٍ نابية، تثير الندم، ولكنها تنسى مع مرور الوقت، ولكن الحسرة تدوم أكثر لو أن الإنسان نسي، ولم يتذكر الكلمات المناسبة حتى يرد بها على خصمه!!
والأدب الإنساني مليء بالمواقف الذكية والردود المناسبة، للمشهورين والأدباء وغيرهم، ممن تعرضوا للإحراج في الفعل والقول، لكنهم استطاعوا أن يردوا عليها، فيحولوا الحرج إلى غرمائهم وخصومهم، فتنقلب الصورة تمامًا، وهذا أحد الكتاب يخاطب «برنارد شو»، ويقوله بأنه يكتب من أجل الشرف بينما «برنارد شو» يكتب لأجل المال، فرد عليه «برنارد شو» بعفوية بالغة: «كل يبحث عما ينقصه!!».
أما الأدب العربي والإسلامي وتراثه العظيم، فمليء بالقصص التي تدل على حنكة العرب وسرعة بديهتهم وذكائهم، وهي قصص لا تحصى، ومن الطرائف أن رجلًا قال للمتنبي: «رأيتك من بعيدٍ وظننتك امرأةً!!»، فرد المتنبي قائلًا: «وأنا رأيتك من بعيدٍ وظننتك رجلًا!!».
بعض المعاهد والمدارس الغربية، تقوم بتهيئة أبناء المشاهير والأثرياء، وتعلمهم طريقة الأكل والمشي و»الإتيكيت»، لكنها في الوقت نفسه، تقوم بتدريبهم على كيفية التعامل مع الناس واختيار الردود المناسبة والألفاظ اللائقة والذكية، خاصة في المقابلات الصحفية والإعلامية، وتسعى إلى تهيئتهم، ليستطيعوا التخلص من الإحراجات والأسئلة، وحتى يحتفظوا بحضور الذهن والبديهة وعدم التصرف بعصبية.
وجميعنا نلجأ إلى مخزوننا التربوي والثقافي، حتى يعيننا على تجاوز بعض المواقف المحرجة... ولو راجع أحدنا ذاكرته وراجع تصرفاته أثناء هذه المواقف لوجد بأن مخزونه خذله، لأنه لجأ إلى العصبية أو التصرف بغباوة، فيشعر بالندم، ويتمنى لو أن الزمان عاد به، لقال أو تصرف بطريقة أخرى، ولكن هيهات له ذلك!!
وكل إنسانٍ، لديه حصاد عمره وماضيه، ويحتفظ في ذاكرته بأفعاله وأقواله، وقد يتذكر بعضها بحرقة وألم، ويتمنى أن لو دار الزمان وعاد للوراء، حتى يعيد التصرف بطريقة مغايرة!!... لكنها، للأسف، شخصية الإنسان وطباعه، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولو تكرر الموقف معه مرة أخرى لتصرف بنفس الطريقة الأولى!!
وسرعة البديهة، هي صورة تعكس شخصية كل واحدٍ منا، ولا يستطيع أن يتجاوزها، ولا يستطيع أن يغير ويبدل حاله، لأنها من طبيعة الإنسان وتكوينه، فهو إن كان أخرق، فلن تستطيع الدروس والمعاهد والتجارب تغيير طباعه!! وإن كان عصبيًا، فستبقى أعصابه متوترة، ولا يمكنه السيطرة عليها في المواقف المحرجة!! وإن كان لطيفًا وهادئًا وذكيًا، فإنه يستطيع أن يسجل صفحاتٍ ناصعة في سرعة البديهة!!.